الجديد

“التمرد الصامت” .. العيش المشترك مهددا

هشام الحاجي 

تهافت قطاعات واسعة من التونسيين و التونسيات على تحدي إجراءات الوقاية من العدوى بفيروس الكورونا و استهتارهم بسلامتهم و سلامة غيرهم، يمثل بكل تأكيد سلوكا غير عقلاني، و لكنه جدير بقراءات متعددة، تحاول كشف بعض أسبابه لأنه انتهاك فضيع للقاعدة الأساسية التي  ينبني عليها الإجتماع الإنساني ، و هي مقاومة الموت و محاربته و التمسك بالحياة.

قد نستعيد كمدخل لذلك ما ذهب إليه أحد مؤسسي علم الإجتماع الحديث ايميل دوركهايم في دراسته عن الانتحار و التي أشار فيها إلى أن الانتحار ترتفع وتيرته في حالات الارتباك و الاضطراب الاجتماعي.

دوركهايم كان يتحدث عن الانتحار كسلوك فردي و استنتاجه يمكن أن يفسر إرتفاع حالات الانتحار بعد 14 جانفي 20111 ، و ما دمنا لم نغادر لحد الآن متاهة التخبط و الارتباك و غموض الرؤية،  فإن تحول الأمر إلى سلوك جماعي يبقى أمرا ممكنا، و قد توفرت له أرضية ” مستساغة” ، مثل العنف اللفظي و الجسدي و الإدمان و هي مظاهر تضرب في العمق ثقافة الحياة و العيش المشترك.

كما أن العامل الإقتصادي يبقى أيضا عنصرا مهما في تفسير ” السلوك الانتحاري ” في التعامل مع الكورونا إذ يبدو أن ما عاشه التونسيون في العشرية الأخيرة من إنتقال من الإستماع إلى تحقق كل التطلعات الفردية والجماعية إلى خيبة أمل شاملة في هذا المجال جعلهم لا يعولون إلا على أنفسهم و هو ما يعني شرخا كبيرا في علاقتهم بالدولة التي تفقد أهم وظائفها و تفقد خاصة كل الوسائط الممكنة و الضرورية بينها وبين المواطن.

لم يبق للدولة لفرض القانون إلا المؤسسة الأمنية و لكن ” التمرد الصامت” الذي تعيش على وقعه البلاد منذ الإعلان عن الإجراءات الأخيرة للحد من تفشي الكورونا يمثل تحديا كبيرا لقدرة هذه المؤسسة على التحرك، و خاصة لقدرة الجهات الحاكمة على الحفاظ على مصداقيتها و خاصة على التماسك المجتمعي، لأن الاستخفاف بالكورونا ليس شغب شباب عقب مباراة كرة قدم بل هو تهديد خطير لأسس العيش المشترك و لمختلف مناحي الحياة.

لا شك أن الحكومة بالدرجة الأولى و الاحزاب السياسية و الجمعيات و المنظمات بدرجة أقل تتحمل مسؤولية ” الانفلات ” ، لأنها لم تغير نوعيا من علاقتها بالمواطن و عجزت على أن تكون وسيطا ايجابيا، و على أن تقدم له القدوة الحسنة.

أضاعت الحكومة الحالية بعض المكاسب البسيطة التي تحققت عند مواجهة الموجة الأولى من الكورونا و التي تجسدت في بروز سلوك تضامني و في توجه نحو الرقمنة و في مبادرات شبابية و مواطنية هامة.

أصبحت هذه المكاسب أثرا بعد عين و عوض المراكمة عليها اتضح أن قرارات الحكومة لا تخضع للاعتبارات العلمية في ما يتعلق بمقاومة الكورونا بل توجهها حسابات المصالح ، و تبين أن الحصول على التلقيح لا يخضع لقواعد الشفافية بل للمراكنة و العقلية القطاعية.

انتفى منطق التضامن و اقتسام الأعباء و التضحيات، فكان ” طبيعيا ” أن يحل محله منطق التمرد و السلوك العدواني ، تجاه الذات و تجاه الآخرين.

ان الاستهتار في مواجهة الكورونا ، يكشف أن مؤسسات الضبط و التعديل الاجتماعي ، سواء كانت العائلة أو المدرسة أو غيرها من المؤسسات قد فشلت في دورها في الدفع نحو التسامي، و البحث عن المجتمعي المشترك ، و أننا نشهد تشكل ” فردية متوحشة ” بما يعنيه ذلك من مخاطر على الحياة الإجتماعية و من هيمنة القوة.

عامل آخر أخذ في البروز تدريجيا و هو أن ما أصاب الطبقة الوسطى من تآكل و تراجع في المكانة و الدور أضعف منظومة القيم و السلوكيات التي ترتبط بهذه الطبقة و التي لا تخلو من إحترام القانون و الميل للاستقرار و المحافظة على المكاسب،  ليتحول الأمر إلى ما يشبه صراعا رمزيا بين فئة من أصحاب المصالح و النفوذ ، لا يعنيهم إلا وضعهم المالي و فئة تشعر أنها تفقد يوميا القدرة و الرغبة في الحياة،  و هو ما يجعلها تتخذ من شعار ” عليا و على أعدائي ” منهجا و أسلوبا.

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP