الجديد

خريطة “فلسطين المقاومة” للفنانة البصرية الاستبطانية ريم سعد…جرح أخضر وحبات زيتون تقطر دما

تونس- (تحرير وات)-

فلسطين الأرض والهويّة، الشعر والسرديات والملاحم، أيقونة الأحرار، وحدها تلك الزيتونة المباركة من أسقطت ورقة التوت عن مارد لا يشبع من الدم.. “المقاومة” تٌكتب بكل نفس وفي كل صباح جديد، فلسطين كالفن، فعلا مقاومة في هذا الزمن.

خريطة فلسطين المقاومة لريم سعد تنعكس في عبارة علم التصوف الإسلامي النفري :”كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.” ، خارطة تختزن دلالات ورمزيات وألغاز ومعاني تتولّد بكل رؤية وعند كل فكرة وتأبى على الصياغة فتضيق الكلمات.. فالصورة تُشاهد ولا تٌكتب.. وتبقى الكتابة محاولة من المحاولات لتبيان إشكالية الفنانة انطلاقا من الحياة والإنسان وقضاياه الوجودية مِن منظورها الفكري.

اشتغلت الفنانة على عدّة خرائط، على غرار خريطة تونس وإفريقيا وغيرها، وقد اتخذت العديد من المحاور محطات ووقفات وتأملات، كانت ثمارها سجال فكري فني ملئ بالنقاشات والأطروحات، وعماده الوعي والإنارة، وغايته التجاوز والمصالحة.

وبخصوص اختياراتها الفنية البصرية في تصميم خريطة فلسطين، بينت الفنانة ريم سعد في حديث مع وكالة تونس إفريقيا للانباء، أنها تميل إلى الاتجاهات الضوئية اللونية المشرقة، غير أنّ خريطة فلسطين بالذات كانت مغايرة لما دأبت عليه ، فألوانها لم تكن مريحة ومطمئنة، بل كانت مؤلمة كجرح فلسطين الأخضر .. فهي لم تستطع أن تكون وفيّة لألوانها التي تحبّذها في أغلب أعمالها، حيث وجدت نفسها وجها لوجه أمام أودية من دم، وهنا تقول ريم: “عندما عملت على الجسد الإنساني مثلا، تصالحت مع الجسد في شتى تمثلاته، كذلك كل موضوع أعمل عليه أتصالح معه حد الممكن إلا فلسطين ظلّت عصيّة، ألواني أبت المصالحة”.

وردت خريطة فلسطين مكثّفة كأنها تختزل جرح فلسطين الأخضر، من الصور التي برزت في خارطة فلسطين المحتلة، عندما ضاعفتها الفنانة أو عكستها (وهي تقنية رقمية ملازمة لأغلب أعمالها) برزت حبات زيتون تقّطر دما، كما برز جيش وكتيبة، ومعمار وأقواس وصوامع وصليب وريشة حمراء، (سمتها الفنانة ريشم الدم، فالتاريخ يدوّن بالدم هنا) ورحم بصدد مخاض في رمزية لفلسطين الولاّدة.

إنها فلسطين بأبعادها المعقدة في هذا العمل، يمكن رؤية جرحها الأخضر لنتذكر المجازر والمذابح والمحارق التي جرت على هذه الأرض على مر العقود… أما حبات شجرة الزيتون التي تقطر دمًا تشكل رمزًا للتضحية والصمود والمقاومة التي يظهرها الشعب الفلسطيني الأبي في وجه الطغيان.

تظهر الخريطة المضاعفة أيضًا جيشًا وكتيبةً وسهما وبساطا وطيور أبابيل.. السهم يشير إلى توجيه الهمم والكفاح نحو تحقيق الحرية والعدالة الإنسانية، أما البساط المنقوش بالدم يُظهر التمسك بالتراث والهوية الفلسطينية. أما الطيور الأبابيل، فهي رمز للخلاص والأمل والعدالة وانتصار الحق على الباطل.

وتعكس مقاربة ريم سعد أيضا لخريطة فلسطين، حسب وجهة نظرها الفنية، المقاومة ودعوة إلى شعوب الأرض والمفكرين الأحرار (كما سمتهم الفنانة) إلى التأكيد على أن القضية الفسطينية هي قضية الكون بأسره، فهي ترسل دعوة مباشرة لشحذ الهمم وإعلاء صوت الحق، والتمسك بالإيمان والأمل، عبر الاستلهام من القوة الروحية وصمود الفلسطينيين في مواجهة القتل والإبادات والتهجير والجوع.

وتعتبر تقنية les aquarelles introspectives التي تعتمدها الفنانة ريم سعد فيسفساء مائية ضوئية استبطانية توليدية، حسب توصيفها، وهي تقنية تتفرد بها الفنانة لتجمع بين الألوان والضوء والأشكال والرموز والألغاز بطريقة تجعلها مختبرا لدّلالات والأفكار، هي تقنية معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة، من حيث تعدّد السرديات حسب القراءات، ترتكز بمنهجية سلسلة حتى في مركّباتها وتراكيبها وثنائياتها، خالقة لمقاييس فنية جمالية مستحدثة بزاد معرفي متجدّد.

تعتبر هذه التقنية الإستبطانية حساسة للغاية وتحتاج إلى الساعات الطوال يوميا من العمل والتركيز والتأمّل في تفاصيل التفاصيل، وفي ثنايا الهوامش.

وبواسطة هذه التقنية، تندمج المواد والألوان والضوء في مزيج عجائبي يخاطب المشاهدين تفكيرا وتأملا. حيث يبقى للمشاهد تفسيره الخاص ولا يمكن أن نقول أنّ هذه الرؤية خاطئة وتلك صحيحة، فكل قراءة نسبية، وكل قراءة حقيقة، لأنها تلامس أفكار ونبض من يقرؤها.

كما ترتكز تقنية “Aquarelles Introspectives” على استخدام الألوان المائية لتمثيل الأفكار والمشاعر الداخلية. حيث تعمل الفنانة على تجسيد هذه الألوان من الخلية لتتشكّل الخلايا مترابطة متشابكة بصريا، وتبني عليها لوحاتها. وتستمد اللوحات حيوية من الماء والألوان والشفافية، وتعكس التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. إذ تقوم هذه التقنية بجمع الأبعاد المتعددة للزمن والتاريخ من خلال الكيمياء المعقدة للألوان.

وعندما تحدّثت ريم سعد عن تقنيتها المبتكرة أوضحت أن الماء يمثل جزء من تقنيتها، وهو ما يعزّز العمق والتعقيد في أعمالها وما يعكس أبعادًا جمالية ومعاني فلسفية في فنها، إذ تعتبر الفنانة الماء وسيلة وغاية في أعمالها من خلال تقنيتها، ما يرمز للانسكاب والتدفق وما يمثل الحياة والحركة المستمرة. فالماء يمكن أن يخلق تأثيرات بصرية رائعة عن طريق الانعكاس والانعكاس الضوئي في لوحاتها، كذلك يعكس استخدامه لتجسيد الفكرة الفلسفية لكل إنسان كيان فريد بذاته.

والمتمعن في لوحات الفنانة يستبطن سرديات و سياقات مختلفة من حيث المحتوى والمضمون. إذ تستند أعمالها على القصص والروايات التي تحمل معاني عميقة وترتبط بالتراث والموروث المادي واللامادي بطرق متعددة، إذ تتعمق لوحاتها في التراث الثقافي والتاريخي لمجتمعات، وتستخدم العناصر التراثية لتمثيل القصص والتجارب التي تعبر عن الهويات الثقافية.

ريم سعد هي فنانة تعتمد في أعمالها على الفن التجميعي (Art De Synthèse)، وهو نمط فني يجمع بين الفنون المختلفة ويجسد الإبداع والتنوع، حيث تقوم بدمج مكونات متنوعة من الفنون، مثل الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي، والسينما والكتابة لخلق قطع فنية فريدة محملة بعدة مفاهيم وتأخذ من كل شيء بطرف، فيه التجريد “abstrait” والتصويري “figurative” (التصويري)، ويمكن أن تصفه بالبسيط “minimaliste” والمعقّد “complexe” في آن واحد، دون أن يكون هنالك تناقض بين هذه المفاهيم، فهو حمّال للمعنى والأوجه، كل حسب مرجعيته الفنية والفكرية.

وتقول الفنانة في حديثها مع “وات” انها تسعى من خلال توجهها الفني لتحقيق تكامل وتصالح بين العقل والشعور، وبين الإيمان والعلم مشيرة الى أنها تأخذ على عاتقها مهمة تجسيد العوالم المعقدة والأفكار الفلسفية من خلال لوحاتها، بالتالي، يمكن القول إن أعمال ريم سعد تعبّر عن توازن متقن بين الأبعاد المعرفية والعاطفية وبين العقل والشعور، مما يجعله فنًا متكاملاً ومعبرًا عن عالم داخلي غني ومتعدد الأبعاد.

وهنا تتنزّل قضية فلسطين كما تراها الفنانة، وهي قضية إنسانية كونية، حيث ترفض فكرة التكافؤ بين المستعمِر والمستعمَر، وتدعم حق الشعب الفلسطيني، غير القابل للتصرف، في المقاومة، باعتبار أنّ كفاح الشعوب من أجل التحرر والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي هي فكرة حيّة لا تموت.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP