الجديد

في الذكرى 98 لتأسيسه: النادي الافريقي …"عقلية"

هشام الحاجي *

تخترق الرياضة، كل حقول النشاط الانساني في المجتمعات المعاصرة، اذ تبادلها التأثير و التأثر، علاوة على انها توفر لبقية الحقول مجالا رحبا للتفاعل . و لا شك ان الحقل الرياضي في تونس، يخضع لهذه المحددات منذ بداية تأسيس الجمعيات الرياضية، في مطلع القرن الفارط.
لقد ارتبط اكتشاف الرياضة بالاحتكاك مع الاستعمار الفرنسي، و هو ما منحها دلالتين متناقضتين كل التناقض . ففي حين اراد الاستعمار الفرنسي ان يجعل الرياضة اداة اخضاع و الحاق، و مجال ابراز التفوق الفرنسي، اصر التونسيون على ان يجعلوا منها سلاح تحرر، و اداة شحذ الهمم و بناء الوطني .
الافريقي .. بألوان تونس
اتجسد جمعية النادي الافريقي، بشكل كبير هذا التوجه، ذلك ان تأسيسهايأتي في مناخ اكتشاف الهوية التونسية الجديدة، بعد ان اخذت الاثار الاولية لتفكيك الاستعمار الفرنسي لأطر الانتماء و النشاط التقليدية في الظهور، و بعد ان انتهت الحرب العالمية الاولى، و دفع عدد كبير من التونسيين حياتهم ثمنا لها، و بعد احداث الجلاز و الاستعمار الايطالي لليبيا .
كان الاباء المؤسسون لجمعية “النادي الافريقي” يضعون هذه المعطيات بعين الاعتبار، و هو ما جعلهم يقررون جعل النادي بوتقة لبناء الهوية الوطنية التونسية . لذلك تمسكوا باللونين الاحمر و الابيض، و هما لونا العلم الوطني و اصروا على ان لا يمنحوا شخصا فرنسيا امكانية رئاسة الجمعية، و لو لأيام متحدين بذلك شرطا اساسيا، من شروط الادارة الفرنسية لمنح تاشيرة النشاط .
لقد كلفهم هذا الاصرار “خسارة” بضعة اشهر من النشاط، و لكنه منحهم مزيدا من الاصرار على توجيه رسائل لاستنهاض همم التونسيين و التونسيات، و هو ما جعلهم يخوضون حربا اخرى من اجل توشيح القميص بالشعار الوطني، و قد كسبوا هذه المعركة، بعد سنوات لتكون جمعية “النادي الافريقي” ، اول جمعية رياضية تونسية تزين النجمة و الهلال ازياء لاعبيها .
و تعتبر جمعية النادي الافريقي اول جمعية تهتم بالرياضة و الثقافة، اذ كانت لها فرقة مسرحية و كان مؤسسوها وراء تاسيس المعهد الرشيدي . و لا شك ان جمعية “النادي الافريقي” ، تعتبر الجمعية الوحيدة في تونس، التي لا تحيل في تسميتها الى منطقة او مدينة او جهة، لان مؤسسيها ارادوا ان تكون جمعية الشعب التونسي، و تعبيرا عن هويته المنفتحة بمكونها العربي و المسلم و الافريقي.
من ادلة الانفتاح الايجابي ان جمعية “النادي الافريقي” قد احتضنت التونسيين من المسلمين و اليهود، و تحدت الاحتلال النازي في اربعينات القرن الماضي ،بان رفضت اقصاء ابناءها من اليهود التوانسة و حمتهم، دون ان ننسى دورها الريادي في الرياضة النسائية و في تطوير مكانة المراة، و هنا يمكن التذكير بالمرحوم احمد بن ميلاد، الذي كان من مؤسسي جمعية النادي الافريقي، و من رفاق درب الزعيم النقابي و الوطني فرحات حشاد ، و سمي بطبيب الشعب لانه كان يداوي الفقراء مجانا ،و قد شيد سنة 1948 من ماله الخاص اول مدرسة ابتدائية تونسية مختلطة .
لقد كان تأسيس النادي الافريقي، انحيازا للشعب، و هو ما يفسر الى حد كبير انتشار مفهوم “العقلية “، مرتبطا بالجمعية في الوقت الذي يسعى احباء الجمعيات الاخرى للتماهي مع الدولة .
دور سياسي .. دور وطني
ان تفكيك مفهوم “العقلية”، قد يحتاج الى مجال اوسع و لكنه يشير اجمالا الى جانب الاعتزاز بالبعد الوطني، و الانفتاح من موقع القوة، على الحداثة الى تبني “ثقافة الرفض ” . و هذا الرفض هو لبعض اشكال التفاوت، و الحيف و لعل هذا ما يفسر ان اغلب رموز النادي الافريقي قد خدموا الوطن و المجتمع قبل ان يخدموا الدولة .
و اذا كانت الامثلة لا تحصى، فانه تكفي الاشارة الى ان الشاعر احمد خير الدين مؤلف “حماة الحمى” ، قد كان مسيرا في القلعة الحمراء و البيضاء . و انحاز رموز النادي الافريقي للدولة، على حساب السلطة، حين انخرطوا بعد الاستقلال في خدمة تونس، و يحضرني هنا مثالين الاول لفتحي زهير، الذي خير لما اختلف مع الرئيس الحبيب بورقيبة ، ترك وزارة العدل، و عزوز لصرم الذي استقال سنة 1978 تعبيرا عن رفضه للانحراف نحو العنف، في مواجهة الاتحاد العام التونسي للشغل، و مرة اخرى في 1984 تعبيرا عن رفضه لسياسات استهداف الطبقات الضعيفة اقتصاديا، و لاختيار اسلوب التصلب في مواجهة الحراك الاجتماعي و الاتحاد العام التونسي للشغل .
نادي رياضي في المعارضة
لم يكن النادي الافريقي جمعية “سلطة “، و بحث عن السهولة و لعل هذا ما يفسر جملة من المصاعب التي واجهها، و عدم “استفادته” من الاموال السهلة التي اتى بها من تولى رئاسته في السنوات التي اعقبت 2011 .لم اكتب ما سيق الا من موقع المحب العاشق، الذي لا يخفي انتماءه خاصة و هو يدرك ان هذا الانتماء يلقنه منذ البداية احترام الجمعيات الاخرى، لان مقولة ” احب جمعيتي و لا اكره احدا” تمثل احد اهم اركان “العقلية “.
و لا شك ان احتفال احباء النادي الافريقي بالذكرى الثامنة و التسعين، لحصوله على تأشيرة النشاط القانوني، يمثل مناسبة لاستحضار المبادئ، التي قامت عليها الجمعية لان حالة الاحباط و الارتباك التي يعيشها المجتمع التونسي، تجعلنا احوج ما يكون لإعلاء الانتماء الوطني و للانتصار للعلم المفدى، و للانخراط في خدمة المجتمع و الدولة، دون تكالب على السلطة، و للانتصار لهوية منفتحة ببعديها العربي و المسلم، و لتكريس المساواة بين المرأة و الرجل، و الاصرار على التفوق و الانجاز و بالتأكيد على الانتماء لإفريقيا.
*إعلامي وباحث في الإجتماع

هشام الحاجي [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP