آلان تورين وداعاً
عيبان محمد السامعي
غيَّبَ الموتُ يوم أمس واحداً من أعظم العلماء السوسيولوجيين في العصر الحديث، إنه عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين “Alain Touraine”، المولود عام 1925.
آلان تورين نجمٌ لامعٌ في سماء السوسيولوجيا، فقد تخرّج على يديه جيل من العلماء السوسيولوجيين لعل أبرزهم: مانويل كاستلز.
انشغلت سوسيولوجيا آلان تورين بدراسة النظم الكبرى: الحداثة، التنظيم الاجتماعي، السلطوية، المجتمع الصناعي، المجتمع ما بعد الصناعي، الحركات الاجتماعية… إلخ.
وقد شيّد تورين باراديغماً سوسيولوجياً عن الحركات الاجتماعية، فهو من أكثر من نظّر وأصّل لسوسيولوجيا الحركات الاجتماعية بدءاً من تناولاته المبكرة للحركات الاجتماعية الطلابية في ماي 1968 في فرنسا، مروراً بالحركات العمالية في أوروبا، وليس انتهاءً بالحركات المطالبة بالسلام وحركات مناهضة العولمة والتغير المناخي.
يرى آلان تورين أن تنامي الحركات الاجتماعية في المجتمع ما بعد الصناعي يشير إلى أزمة النظام العالمي، فالنظم السياسية تعمل جاهدةً على تقليص مساحات الحرية، ولهذا تقوم الحركات الاجتماعية الجديدة على استرجاع هذه الحرية.
ويؤسس آلان تورين باراديغمه الخاص عن الحركات الاجتماعية على ثلاثة مبادئ أساسية هي: مبدأ الهُوية، ومبدأ التعارض، ومبدأ الكلية.
وبهذا فالحركة الاجتماعية تعمل على الدفاع عن الهوية الذاتية والمصالح الخاصة بها، والرؤية المشتركة التي يتقاسمها الأفراد مع الآخرين، والطبيعة النضالية ضد الخصم. فالحركات الاجتماعية في طبيعتها القديمة والجديدة تفترض وجود صراع حول مصالح ودفاع عن حقوق، مع ما يعنيه الصراع والدفاع من وجود خصوم.
شكّل آلان تورين حالة فريدة في التنظير السوسيولوجي مع كوكبة من علماء السوسيولوجيا المعاصرة من أمثال: بيار بورديو، وأنتوني جيدنز، ويورغن هابرماس، ومانويل كاستلز، وغيرهم الكثير ممن أخذوا يخطّون مساراً سوسيولوجياً مغايراً ينزع نحو تأسيس علم اجتماع نقدي.
فعلم الاجتماع لا يكتفي بوصف الظواهر كما تذهب الوظيفية؛ بل يتجاوز ذلك إلى نقد النظام الاجتماعي، ودحض منطق البداهة، والغوص في البنيات الداخلية للنظام، وكشف آلياته الهيمنية؛ كشرط موضوعي لتغييره.
لهذا يمثل علم الاجتماع النقدي وفقاً لبورديو: “مصدر إزعاج لأولئك المسيطرين الذين يستفيدون من هذه الهيمنة. كما أنه يزعج أولئك الذين يحوّلون أنفسهم إلى شركاء متواطئين، مع هذه الهيمنة والذين يرون في السوسيولوجي عِتاباً حياً لا يُحتمل. بينما هو يقوم بعمله فقط، العمل الذي كُلّفَ به اجتماعياً، ويعمل على قول الحقيقة حول العالَم الاجتماعي”.
وتغدو السوسيولوجيا، وفقاً لبورديو أيضاً، علم صعب على نحو خاص، وتكمن إحدى صعوباته الكبرى في حقيقة أن موضوعاته هي رهانات صراع؛ وهي أشياء يخفيها المتصارعون ويخضعونها للرقابة.
آلان تورين أحد العلماء السوسيولوجيين اللامعين الذي لطالما نافح عن المعنى الحقيقي لعلم الاجتماع، وكان على الدوام يحرص على إقامة حالة من التناغم الهارموني بين الفكر والتطبيق، بين التنظير الاجتماعي والممارسة السياسية.
فعلم الاجتماع عنده ليس مجرد تخصص أكاديمي، بل هو في النهاية “منتج رمزي خاص، يتوسط المنتجات العلمية الخالصة، والمنتجات السياسية”.
المجد لاسمه والخلود لتراثه السوسيولوجي والفكري البديع والثريّ..
Comments