آمال موسى تكتب عن “الباجي قايد السبسي: رائد سياسة الإسعافات الأوليّة”
آمال موسى*
غالبا ما تفرض ” الكتابة الاحتفالية ” صعوبات إضافية على من يريد التفاعل مع المناسبات المرتبطة بأحداث وطنية أو دولية أو بشخصيات تركت بصمتها في مجال اشتغالها. و لا شك أن الصعوبة تزداد حين يتعلق الأمر بشخصية في حجم و حضور و إسهام المرحوم الباجي قايد السبسي الذي نتأهب لاحياء مرور سنة على وفاته، يوم السبت 25 جويلية الجاري، وبهذه المناسبة نخصص في موقع “التونسيون”، ملف حول الرئيس الراحل والزعيم الوطني، والرجل الذي ارتبط اسمه عضويا بمسار الانتقال الديمقراطي، الذي انطلق بعد ثورة 14 جانفي 2011، وننشر في ما يلي مقال للشاعرة والباحثة في علم الاجتماع امال موسى.
يبدو لنا أن الحكم لصالح الأداء السياسي للرئيس السابق المرحوم الباجي قائد السبسي أو ضده، ليس بالأمر الهين ولا السهل، كما يمارسه الكثيرون من الفاعلين السياسيين أو المتابعين للحقل السياسي التونسي على امتداد سنوات ما بعد الثورة.
فالحكم له أو عليه عملية معقدة ولا تُمكننا من إنتاج قراءة موضوعية، تُولي للسياق التاريخي والسياسي والاقتصادي أهمية مخصوصة، باعتبار أن هذا السياق عامل محدد لأداء الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. لذلك فإن إنصاف السبسي وأيضا نقد ما غفل عنه أداؤه من المسائل الجديرة ببذل الجهد خصوصا أن الحاضر قد يستفيد من هذه النظرة الموضوعية والنقديّة.
لقد أعاد الباجي قائد السبسي الظهور بعد ثورة 14 جانفي 2011 في لحظة سياسيّة حاسمة ومفصلية حيث إن نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 قد أعلنت فوز حركة النهضة التونسية بالأغلبية النسبية وكان ذلك بمثابة النكسة لقوى اليسار وكل المجتمع السياسي المناهض للإسلام السياسي. ويُحسب للسبسي أنّه التقط الاتجاه الذي تسير فيه السياسة في تونس بعد الثورة واستعان في حسن الالتقاط وذكاء الانتباه بالرأسمال السياسي البورقيبي الذي كان زاده وأداته الفعالة في إدارة مفاجآت الواقع السياسي التونسي في مرحلة ما بعد الثورة وبداية بناء التجربة الديمقراطية وما يتطلبه القبول بإرادة صناديق الاقتراع من تفاوض ومرونة سياسيتين.
ففي هذا السياق الذي أعلن هيمنة حركة النهضة على الحكم بتفويض شعبي، اكتسبت فكرة تأسيس حزب سياسي جديد اسمه ” نداء تونس” مشروعية كبيرة حيث يجمع القوى اليسارية والتجمعية والتحديثية أي القوى الشديدة الالتصاق بمشروع الدولة الوطنية الحديثة التي تسعى إلى عدم تقويض مبادئها. ومن ميزات هذه الفكرة أنها بسرعة التقطت ضرورة أن تكون في تونس قوة سياسية ثانية تصنع التوازن السياسي وتجعل البلاد تحت قيادة قوتين وفكرتين ورأسين بدل القوة الواحدة.
ونعتقد أن هذه الفكرة تُحسب لفائدة السبسي وذلك لأنها فكرة ضرورية فرضها السياق السياسي لحظتها، إضافة إلى كونها مثلت الدواء اللازم لتنسيب قوة حركة النّهضة والتقليص من هيمنتها على الحقل السياسي آنذاك. ولأن مواجهة القوة تتطلب قوة في حجمها الشعبي والتأثيري، ولد “نداء تونس” كبيرا واضطلع في بدايته بدور أكبر من تاريخه ولكن اللحظة والحاجة إليه وحجم الرهان عليه …جعل منه كبيرا وكان كذلك في نتائج انتخابات 2014 حيث تصدر مقاعد مجلس الشعب وفاز رئيس الحزب بمنصب الرئاسة.
وهكذا انتقل الحقل السياسي من محرك واحد إلى قوة تدفعها كتلتان سياسيتان هما حركة النهضة وحركة نداء تونس وحصل الخروج من سيناريو انفراد الإسلام السياسي بحكم تونس. وهذا أول إسعاف أولي قام به السبسي ونجح فيه.
لنأتي الآن إلى الموضوع الذي يعده الكثيرون خطأ الباجي قائد السبسي الفادح وهو الانخراط في سياسة التوافق ووضع اليد في يد حركة النهضة وهو الذي قدم تعهدات في حملته الانتخابية الرئاسية مخالفة لذلك وبفضلها كسب أصوات المجتمع المدني والمرأة التونسية والمناهضين لوجود حركة النهضة في الحياة السياسية أو لنقل بأكثر دقة المناهضين لفكرة أن تكون حركة النهضة القوة السياسية الأولى في الدولة الوطنية الحديثة. وهي مناهضة مفهومة ومشروعة باعتبار أن نشأة حركة النهضة نفسها كانت نتيجة رد فعل نقدي ورافض لمشروع الدولة الحديثة وخلاف أيديولوجي صارخ مع الرؤية البورقيبية للمرأة وللتعليم ولعلاقة الدولة بالدين والمجتمع بالدين. فكان الخوف على مكاسب الدولة الوطنية الحديثة يُؤجج الالتفاف حول ” نداء تونس” والرّهان عليه سواء من ناحية تقوية الحزب ماديا أو من جهة رفع سقف الانتظارات.
ولكن السبسي بحكم البراغماتية السياسية التي تربى عليها وهو الذي خبّر الحقبة البورقيبة وتقلّد فيها حقائب عدّة، رأى في القطع سياسيا مع حركة النهضة لا يخدم المصلحة الوطنية وتبنى تبعا لذلك سياسة التوافق وهو الإسعاف الأولي الثاني الذي التجأ له السبسي.
وفي الحقيقة من يقرأ السياق الذي حتم التوافق سيجد أن السبسي كان حكيما ومن الحيف اعتبار التوافق خطأ استراتيجيا أنتج بدوره مأزقا سياسيا متواصلا. فالقصد من التوافق كان تجنب الصراعات بين القوتين السياسيتين والانخراط في نفس المصلحة والنهج السياسي خصوصا أن النهوض بالاقتصاد وتلبية مطالب المحتجين من العاطلين عن العمل والمطالبين بالترفيع في الأجور يحتمان تأجيل الصراعات والمعارضة السياسية.
كما أن الإرهاب والضربات الموجعة التي تلقتها تونس سواء من خلال عمليات إرهابية أو الاغتيالات السياسية وما انجر عليها من كساد في مجال السياحة والاستثمار الذي يمثل العجلة الرئيسة للاقتصاد ….زاد في مضاعفة أهمية التوافق واعتماده خيارا ضروريا إلى حين.
طبعا الموقف الرافض لنهج التوافق كان يرى أن الديمقراطية تقتضي أن الفائز الأول في الانتخابات يتولى الحكم ويتحمل مسؤوليته: الفائز الأول يحكم والبقية تعارض. وهو في الحقيقة نظريا موقف لا غبار عليه. غير أن المشكل يتمثل في أنه واقعيا كان سيزج البلاد في مزايدات سياسية وتعطيل لمسار المصادقة على القوانين الشيء الذي لن يوفر الحد الأدنى من شروط العمل السياسي. فالباجي قائد السبسي هدف من وراء سياسة التوافق خلق بيئة تنموية تشاركية، تجعل العلاقة بين المؤسسات الثلاث تفاعلية إيجابية لا سلبية ومعطلة لبعضها البعض خصوصا أن طبيعة النظام السياسي برلماني وللبرلمان صلاحيات الحل والعقد.
يبدو لنا أنه لم يكن من خيار ثان غير التوافق. في حين أن ما يسميه عالم الاجتماع برتران بادي بظاهرة دوران النخب تشترط نضج التجربة الديمقراطية واعتمادها على واقع تنموي قطع خطوات مهمة في طريق الاستقرار المادي والاقتصادي.
ولكن النقطة التي تستوجب النقد حسب رأينا لا علاقة لها بخيار التوافق من أصله وإنما الخطأ العميق الذي تهاون فيه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي هو إهمال حركة نداء تونس والتغافل عن ضرورة تقويتها والعمل على أن تكون قوة سياسية متواصلة ودائمة وليس قوة ظرفية تمكن من الفوز في الانتخابات لدورة أو دورتين وانتهى الأمر.
فشل السبسي في الفصل بين ذاته والحزب، فكان توليه رئاسة تونس بمثابة دخول الحزب في حالة من الغيبوبة التدريجية تمثلت في الانشقاقات المتواصلة وصولا إلى التلاشي السريع. وهو ما يفيد أن نشأة الحزب لم تتجاوز إطار الإسعاف الأولي لحالة الاستقطاب السياسي الواحد في مرحلة ما بعد الثورة ولم يرتق إلى مستوى المشروع الاستراتيجي لتونس الجمهورية الثالثة.
كما أن التوافق نفسه يقتضي استمرار القوتين السياسيتين الرئيسيتين والمحافظة على القوة التي انبثقت لمكافحة قوة الإسلام السياسي. لذلك فإن السبسي لم يخطئ في سياسة التوافق ولكنه أخطأ كثيرا عندما لم يأبه لضعف حركة نداء تونس التي بقوتها يصبح للتوافق معنى ومشروعية. وهكذا نفهم لماذا أصبح الجميع يكفر بالتوافق ويلعنه سياسيا والحال أن المشكل في ما تعرضت له حركة نداء تونس من إضعاف وانشقاق وتفتت لأنه لولا هذه الحركة لما كان التوافق. فهي-حركة نداء تونس-مصدر قوته ومنها يتغذى سياسيا.
فالفرق بين المشكل الذي يستوجب فقط بعض الإسعافات الأولية والمشكل الذي يقتضي فعلا تراكميا كبير جدا.
Comments