أمّ الفضائح: تونس بين جائحتين
شعبان العبيدي
بعد المشهد المقرف الّذي جدّ امس بمبنى المجلس النيابي، وتناقلته شبكات التواصل الاجتماعي حين عمد أحد نوّاب الشّعب المغدور إلى تعنيف عبير موسي ازدادت صورة البلاد قتامة ومهانة على المستوى الإقليمي والوطني. فضائح بالجملة جاءت الانتخابات التّشريعية والرئاسية الأخيرة ما كان لعاقل أن يتصوّرها. بدّدت ما تبقّى من حلم إنقاذ البلاد، ووضعت الشّعب المغدور فيمن اختارهم في موضع من يتوارى من الشّعوب من سوء ما بشّر به، يتقبّل واقعه على هون.
وأمام تحوّل المجلس النيابي إلى بطحاء للفتونة والصعلكة والسباب والتجريح، وما أضافته إليه عبير موسي من فنون في الإخراج المسرحي الكوميدي المبكي من صولات وجولات ومناداة بالبوق واستفزاز وتعطيل لأي عمل تشريعي، لم تكن رئاسة المجلس الواهنة تملك من القدرة والمقبولية ما يمكنها من فرض القانون على الجميع، والتصدّي لكلّ ما ظهر طيلة سنتين من مشاهد مذلّة، رذّلت العمل البرلماني وعمّقت لدى الغالبية من التّونسيين نداء المعارضة إلى رئيس الجمهورية إلى ضرورة حلّ مجلس النّواب. ليأتي حادث اليوم ويؤكّد للجميع أنّ الكتل المتحالفة باتت اليوم تظهر على الملإ استخفافها بالشّعب والدّولة وصورة البلاد، وأنّها مستعدّة لاستعمال كلّ الطرق والأساليب لفرض سيطرتها وإظهار تمرّدها على القوانين والدّستور والأخلاقيات. مادامت محمية من كلّ مساءلة تحت غطاء الحصانة البرلمانية.
من جهة ثانية وفي ظلّ هذا الوباء السياسي الذي لم يأت من الخفافيش الصينية، يخوض رئيس الجمهورية معاركه هو الآخر على جثث الأبرياء والفقراء والمساكين، سواء عبر طلعاته التي يتعمد مكتبه بثها مباشرة كلّ مرّة ليضيف إلى المعجم السياسي الشعبي شيئا من معجمه الصفوي، ويعمّق المعاناة بشئ من الفكاهة المرّة. شعب يعاني من الحاجة وقصف الوباء وغلاء المعيشة والبطالة يطعمه الرئيس خطابات طوباوية و تخريجات استعارية، وما أروع الضحك مع السقوط. ويواصل طريقه في التهجم على الكلّ وفي لقاءاته بأطراف مختلفة منها ما لا علاقة لها بالدّولة. ويختار أن يواصل خلق مزيد من الصراعات والتصدّعات ليصل إلى مبتغاه، في الوقت الذي يتطلّب منه الواجب والسلطة أن يتّجه إلى قيادة حرب وطنية أساسا ضدّ الوباء. وهو لا يعلم أنّ القادة يختارون المعارك الأساسية في حروبهم.
هذا هو الوباء السياسي الذي يعصف بالبلاد ويزيد من معاناة التونسيين، حتّى كأنّ هؤلاء بكلّ مشاربهم التقوا من أجل معاقبة هذا الشعب على ثورته، والانتقام منه. هذا الوباء الذي ابتدأ منذ أيّام الثورة إلى اليوم، لم يجد من يتصدّى له من القادة السياسيين الوطنيين والحكماء في عصر فقدت فيه الزعامات الوطنية الصادقة وسيطرت على المشهد فيالق من المرتزقة والمغامرين والحالمين باليوتوبيا الشيوعية.
ولا خلاص لهذا الشّعب إلاّ بالتخلّص من هذا الوباء الأوّل المدمّر للوطن.
من جهة ثانية يضرب الوباء الطبيعي أقوى ضرباته خلال هذه الفترة من الصائفة، وباتت تونس تتصدّر المراتب الأولى من حيث عدد الإصابات والوفيات. وأمام تفاقم الوضع في مختلف الولايات وازدياد انتشار الوباء في بقية الخارطة الوطنية، تنتشر صور تدمي القلوب وتفضح حقيقة غياب الدّولة ولامبالاة القيادات العليا، يتمسّك رئيس الحكومة بكرسيه وبخياراته العشوائية في التصدّي لانتشار الوباء عبر إجراءات عشوائية تفتقر للمنطق. وتتواصل معاناة التونسيين والعائلات المتوسطة والفقيرة في المدن والأرياف وهم يشيعون موتاهم أو شهداء غدر هذه الدّولة المارقة أمام ضيق ذات اليد بسبب ارتفاع كلفة التحاليل والأدوية، بعد أن انسحبت الدّولة وفسحت المجال لأصحاب المال من تجّار الأدوية أن يثروا من دماء المساكين.
خلاصة القول إنّ استمرار ترويج بلادنا لمشاهد العنف المقيت وللخطابات الجوفاء الرّنانة والاتّهامات والتّهديدات الموجّهة من الرئاسة إلى الأحزاب السياسية أو لوبيات الفساد أمام قرارات السلطة القضائية المعاكسة، وإنّ غياب منظمات المجتمع المدني نفسها في التصدّي لهذا الوضع نظرا لطبيعة تركيبتها في حدّ ذاتها وعدم إيمانها أصلا بالدّيمقراطية جعل التوجّه العام لدى التّونسيين اليوم يقرّ كفره بهذه الدّيمقراطية المزيّفة ويستغيث طلبا للخلاص. فمن يغيث هذا الشّعب الّذي تنكّرت له كلّ الأطياف، و ولّت قبلتها الانشغال بمناوراتها وانقلاباتها و مصالحها. فهو بين منظّمات تسعى للتوريث وتمتهن الخطاب الثورجي في معارضتها لرئيس الجمهورية العودة إلى دستور 59 وبين حزام سياسي للحكومة شعاره “لا يصلح أمركم إلاّ بنا” وبين رئيس حكومة شعاره “ليس بالإمكان أحسن ممّا كان”
Comments