بقلم محمد بشير ساسي*
في إحدى ليالي شهر يناير مطلع سنة 2007، تعقّبت قوات خاصة أميركية موكب قاسم سليماني أثناء سفره من إيران إلى شمال العراق، وتقرّر أنذاك وفق رواية قائد قيادة العمليات الخاصة الأميركية المشتركة الجنرال ستانلي ماكريستال أن تتم مراقبة المسؤول الإيراني فقط وأن لا يتم استهدافه.
ظلت تلك القناعة راسخة في حسابات وتقييمات الإدارة الأمريكية – خلال فترتي الرئيسين جورج بوش وباراك أوباما – حيث تجنّبت القضاء على قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني والمكلّف بالعمليات الخارجيّة لإيران خشية أن تتسبب تلك الخطوة في نشوب حرب جديدة في المنطقة في الوقت الذي كانت فيه القوات الأميركية موجودة على الأرض في أفغانستان والعراق
. بدأ بعدها عهد الرئيس دونالد ترامب الذي ورث “سلاما نسبيا” كما وصفه البعض، غير أن سيّد البيت الأبيض الجديد، اختار نسف ثوابت السياسة الخارجية الأميركية – مدفوعا من مستشارين متشددين – وبالخصوص في كيفيّة التّعامل مع الملف الأيراني حين انسحب فرديا في مايو/أيار 2018 من الاتفاق النووي وأعاد فرض العقوبات الأميركية التي خنقت طهران.
كبرت كرة الثلج وارتفع منسوب الخلافات بين الطرفين لتبلغ ذروتها عندما أُتهمت طهران بالوقف وراء سلسلة هجمات صاروخية منخفضة المستوى على القواعد الأمريكية في العراق، واغتيال مقاول أمريكي، ومن قبلها العمليات ضد ناقلات النفط في الخليج، وإسقاط طائرة مسيّرة أمريكية، بالإضافة إلى زجها في دائرة الاتهام بشنّ ضربات كبيرة على منشأتين نفطيتين في السعودية.
نفذ صبر واشنطن إزاء ما وصفته بأنشطة طهران المزعزعة للإستقرار وتحديدا إثر الهجوم على السفارة الأمريكية ببغداد، ما دفع إدارة ترامب إلى تنفيذ “الخيار المتطرف” كما صنّفه مسؤولون أمريكيون بقتل سليماني في غارة جوية قرب مطار بغداد جعلت منه وفق ماكس بوت الباحث والكاتب بصحيفة واشنطن بوست أكبر قائد عسكري أجنبي تصفيه الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الأميرال الياباني “إيسوروكو ياماموتو في 1943، الذي اتهم بالتّخطيط لهجوم “بيرل هاربور” في ديسمبر 1941 ويرى مراقبون أنّه مهما توفرت معلومات استخباراتية مقنعة وأدلة واضحة على أن سليماني كان يخطّط لحملة كبيرة ضد الولايات المتحدة في الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة، كان من المفترض أن تستبق إدارة ترامب تداعيات هذا الإغتيال الذي يُنظر له بمثابة شرارة حرب ستتبدّد معها رغبة ترامب المفترضة في إخراج الولايات المتحدة من صراعاتها اللاّنهائية.
وحتى إذا أُخذ بعين الإعتبار الفارق في ميزان القوة العسكرية بين إيران وغريمتها الولايات المتحدة فإن ذلك لايعني – بإجماع كثيرين – أنّ النظام الإيراني سيساوم على خيار الثأر لدم سليماني، بل أبعد من ذلك سيبحث عن كيفية تحقيق مكاسب كبيرة مستغلا وحدة الشعب خلف قيادته بطريقة لم تحصل منذ سنوات طويلة.
وبما أن الاستجابة الضعيفة تخاطر بفقدان ماء الوجه، والاستجابة المفرطة في القوة تخاطر بفقدان الوزن الاستراتيجي برأي كريم سجادبور الباحث البارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فقد سلكت إيران مسلك تأليب الساحة العراقية ضد الوجود العسكري الأمريكي ( يقدّر بخمسة 5 آلاف جندي) حيث لم تعد الجمهورية الإسلامية تقبل بقواعد عسكرية أميركية بالقرب منها لما تشكله من تهديد لأمنها القومي وأمن حلفائها في الشرق الأوسط.
الداخل العراقي تناغم سريعا مع “التكتيك الإيراني” بين أروقة البرلمان الذي صوت على قرار يطالب الحكومة بالعمل من أجل إنهاء الوجود العسكري الأجنبي في البلاد دون الاكتراث بتهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض عقوبات على بغداد إذا أجبرت القوات الأميركية على مغادرة العراق التي تعتبر سياسيا وعسكريا “الحديقة الخلفية” لإيران وخطـا أحمرا لن تسمح لأي طرف بتجاوزه.
كما يتوقع أنّ الأذرع الإيرانية تحت قيادة اللواء إسماعيل قاآني – الذي رافق طوال أعوام قاسم سليماني – ستحاول إحكام قبضتها على الملفات الساخنة والتغيير في شكل الصراع وقواعد الاشتباك مع الولايات المتحدة عبر لعب ورقة الدعم الواسع الذي تحظى به طهران في سوريا ولبنان عبر نفس الوكلاء الذين شكَّلهم وموَّلهم الجنرال الراحل.
ويتكهن مراقبون سيناريوهات مرعبة للاستجابة المتوقعة من إيران عبر استهداف سفارات أو خطف رهائن أو تفجير مقرات تابعة لأهداف أميركية وما شابه في منطقة الشرق الأوسط وربما تترقب أمريكا انتقاما يأتيها من داخل دول عربية وحتى أوروبية أيضا كما صرّح بذلك المساعد السياسي للحرس الثوري الإيراني، يد الله جواني في إشارة إلى تحريك الخلايا النائمة وعملاء ميليشيات حزب الله اللبناني.
أما عند الحديث عن القوة العسكرية الإيرانية، يكشف تقرير صادر مؤخرا عن وكالة المخابرات الدفاعية الأميركية، أن طهران تعتمد بالأساس على برنامج الصواريخ الباليستية القوات البحرية التي تثير قلق إسرائيل من جهة ودول الخليج من جهة ثانية وخصوصا بعد إعلان قائد الحرس الثوري الإيراني في إقليم كرمان الجنوبي غلام علي أبو حمزة أن بلاده حددت 35 موقعا حيويا لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط لتكون في مرمى النيران الإيرانية، بالإضافة إلى استهداف المصالح الأمريكية في مضيق هرمز.
وثمة من يرى أنه حتى وإن قرّرت الإدارة الأمريكية التخلي نهائيا عن الأمل بالتوافق مع النظام الإيراني والجلوس معه على طاولة المفاوضات، فإن هناك أطرافا دولية وإقليمية تعمل على احتواء التوتر في المنطقة كي لا تتحوّل إلى “فيتنام جديدة” على حدّ تعبير علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية ولعلّ القارئ الجيد للمشهد يدرك أن التحركات والاتصالات الدولية بهذا الزخم يعكس التخوف من تمرّد طهران على غرار “كوريا الشمالية” على مسار الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بعد كشفها عن الخطوة الخامسة في إطار سياسة خفض التزاماتها النوويه، مؤكدة أنها لن تكون ملتزمة بأيّ قيود في برنامجها.
ويفسر خبراء الاقتصاد أن المساعي الديبلوماسية تدفعها أيضا مخاطر ارتفاع أسعار النفط في حال توقف عمليات الشحن والنقل لأوقات لفترة طويلة. كما أنّ اللّجوء في هذه الحالة إلى الاحتياطات النّفطية المخزّنة من قبل السعودية والولايات المتحدة ودول أخرى سيفجّر أزمة طويلة الأمد في سوق الطاقة العالمية. خلاصة القول، سيكون من الصعب على إيران تقبل تلك الإهانة والضربة الموجعة، ولكن في المقابل من الصعب عليها أيضا المضي في خيار حرب شاملة مع الولايات المتحدة لن تتحمّل أعباءها الثقيلة..
وما بين الخيارين ستجد طهران نفسها مجبرة على الظهور بصورة “اللاعب الإستراتيجي” الذي تتفاوض معه كل الأطراف بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية حتى لا يلحق الضّرر بالجميع.. فإيران كما يطلعنا التاريخ ويخبرنا دونالد ترامب: لم تكسب حربا، لكنها لا تخسر المفاوضات
كاتب وإعلامي تونسي