الجديد

اتحاد الشغل: رفض البيعة .. وقبول الحوار

المهدي عبد الجواد

لم يكن موقف الاتحاد العام التونسي للشغل الرافض “للحوار الرئاسي الاستشاري” غريبا عند من يعرف تاريخ الاتحاد، ويعرف المنعطفات التاريخية والمحطات الوطنية الكبرى، التي كان اتحاد الشغل طرفا رئيسا فيها. فمنذ بدايات التأسيس لم يتخلف الاتحاد على كل المواعيد الوطنية، في النضال الوطني والاجتماعي أثناء المرحلة الاستثمارية، وكان سبّاقا من خلال “التقرير الاقتصادي والاجتماعي” الى صياغة ملامح دولة الاستقلال، وهو “البرنامج” الذي انبنت عليه سياسات الدولة في التعليم والصحة والاقتصاد.

وكان اتحاد الشغل طرفا رئيسيا في معادلة الحُكم، إذ انتصر للجناح البورقيبي ضد صالح بن يوسف، ويعرف الجميع نتائج ذلك. ولكن الجميع يعرف ايضا أن اتحاد الشغل دخل في صراع صامت يقوى ويخفُتُ بحسب موازين القوى، مع السلطة التي كان طرفا في معادلاتها الوطنية الكبرى، صراع حول استقلالية قرار المنظمة، وصراع حول الإصلاحات السياسية والاجتماعية، الأمر الذي حوّل اتحاد الشغل إلى “مظلة وطنية” تحمي كل القوى السياسية المنادية بالديمقراطية والإصلاح السياسي والاقتصادي.

الاتحاد يعوض عجز النخب السياسية

وقد تعاظم دور الاتحاد بعد ثورة 14 جانفي، نتيجة لضعف السلط والحكومات التي توالت على الحكم طيلة عشر سنوات، وخاصة نتيجة عجز النخب السياسية على بناء مشاريع حزبية قوية، قادرة على بناء مشاريع وطنية تحظى بإجماع وطني واسع، وتنال رضاء التونسيين والتونسيات.

ورغم تتالي الانتخابات وتبدّل نتائجها، ظل اتحاد الشغل يُتابع “بقلق” ما كان يعتقده عبثا، ونذكر في هذا الإطار الكثير من المفردات التي استعملها الأمين العام للمنظمة في وصفه للصراعات السياسية العبثية من جنس “لعب” و”صغار” و”ذري”.

حماية ارث الدولة

فاتحاد الشغل كان ومازال يعتقد أنه معني بالحفاظ على “الشقف”، ليس في معناه الضيق اي “شقف المنظمة” بل في دلالاته الأوسع اي “شقف الدولة”. والاتحاد يعتبر نفسه معنيا أكثر من غيره، خاصة من هذه الشخصيات السياسية والتنظيمات الحزبية الطارئة على الشأن العام والجديدة وخاصة الغريبة على تاريخ البلاد ودواليب الدولة، معني بحماية إرث الدولة الوطنية، التي ساهم في تحريرها وفي بنائها، وفي نضالات شعبها لتحقيق مكتسباته الاجتماعية والديمقراطية.

ولكل ذلك كان الاتحاد يُبادر في كل مرة يستشعر فيها الخطر، ويرفع صوته مرة محذرا ومرة ناصحا وأخرى مهدّدا. ولم يتوان منذ ظهور أزمة الحكم مع الترويكا أو في حكومة النداء والشاهد أو المشيشي عن التقدم بمبادرات إصلاحية.

ونستحضر جميعا دوره في سنة 2011، في احتضان “الحوار” الأول بين الفاعلين السياسيين إثر سقوط نظام بن علي، ودوره في الحوار الوطني سنة 2013، وفي حوار قرطاج الأول والثاني مع الباجي قايد السبسي رحمه الله، وخاصة دعوته منذ أكثر من سنة إلى حوار وطني للانقاذ، يقوم على تلازم مسارات الاصلاح التشريعي والسياسي والاقتصادي. وكانت دعوة الاتحاد استباقية، إذ أنه كان يُدرك من خلال تجاربه أن البلاد تسير بسرعة نحو “انسداد” حقيقي على كل الواجهات.

الاتحاد وقيس .. من الدعم الى التوجس

استأثر الرئيس قيس سعيد بكل السلطات منذ إعلانه الإجراءات الاستثنائية (25 جويلية 2021)، ونال “مباركة” الاتحاد الذي لم يكن راضيا على طريقة تسيير البلاد، وأعلنت منظمة حشاد ترحيبها بالمسار الاصلاحي وعقدت “حسن النية” في قيس سعيد، كغيرها من قوى ومنظمات وجمعيات.

لكن تطور الامور جعل ذلك “الاندفاع” يتباطأ، وبدأت الخلافات في وجهات النظر تظهر، حتى أعلن الرئيس على تشكيل هيئة استشارية ولجنة قانونية للاصلاحات لصياغة “دستور الجمهورية الجديدة وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية”. خطوة أحادية كرّست بطريقة لا لُبس فيها “التوجه الفرداني” للرئيس، وبرهنت على كونه رافض لكل أشكال “التشاركية”.

واتحاد الشغل المنظمة التي تعيش على فكرة “المشترك” داخلها باعتبارها منظمة ديمقراطية تكفل التنوع الفكري والمذهبي والسياسي، وخارجها باعتبارها منظمة حامية لقيم الدولة وحامية لمبدأ الوحدة الوطنية، تعلم أكثر من غيرها ان “الاستفراد” بالرأي عامل اضعاف للوحدة الوطنية ، وتهديد للسلم الاهلي وخطر على كيان الدولة.

من هنا، رفض اتحاد الشغل الانخراط في حفل “المبايعة”، والتحول إلى “مستشار صوري” ليُبارك مشروعا شخصيا غامضا، وهو ما يؤكد وفاء الاتحاد لهويته كقوة وطنية تُعلي من المُشتركات، وتجعل المصلحة الوطنية هي العُليا.

“لا” الاتحاد .. تركت الباب “مواربا”

ولكن رفض “البيعة” ، لا يعني رفض الاتحاد الدخول في حوار، متى توفرت الشروط الدنيا للحوار، وابسط تلك الشروط هو أن يكون الحوار تشاركيا فعلا، ووطنيا حقا، ولا يصدر من نتائج معلومة مسبقا، وأن يكون حوارا تقريريا جماعيا لان مُخرجاته تعني كل التونسيات وكل التونسيين.

لقد ترك اتحاد الشغل الباب “مواربا” لامكانية إقامة حوار جدّي، ومدّ يده للرئيس حتى يُعيد ترتيب الاولويات ويراجع المرسوم عدد 30 الذي ينظم الحوار، وأكد الأمين العام للمنظمة الشغيلة نورالدين الطبوبي أن “مراجعة المرسوم، والتراجع على الخطأ من شيم الكبار” ولكن الرئيس سعيد بإمضائه مرسوم تنظيم الاستفتاء والدعوة اليه وتحديد مضمونه لم يُنصت  إلى الطبوبي، إلى حد الآن على الأقل.

وفضلا على أهمية موقف الاتحاد في علاقة برفض أن يكون “شاهد زور” كان قرار الهيئة الادارية مُحفّزا لقوى أخرى ودافعا لها حتى ترفض مبادرة الرئيس. فالجميع يُدرك معنى أن لا يُشارك الاتحاد في الحوار، أي أنه سيكون أقرب للفشل منه الى النجاح.

وان نتائجه لن يتم تنزيلها في الواقع، وهو ما التقطه عمداء الكليات القانونية الذين رفضوا المشاركة، وتبعهم رؤساء وقدامى الرابطة التونسية لحقوق الانسان، وتشجع محامون في رفع أصوات الرفض، كما عدّل اتحادا المرأة والاعراف من موقفيهما في اتجاه أكثر قربا من موقف “قلعة حشاد”.

ولكن الأخطر من كل ذلك هي تصريحات الكثير من الخبراء الاقتصاديين بكون موقف الاتحاد يقضي على كل إمكانية للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.

رفض الاتحاد .. زلزال له ما بعده

ان تداعيات رفض الاتحاد لدعوة الرئيس في المشاركة في “هيئة الصادق بلعيد الاستشارية” يتجاوز في الحقيقة جوانبه الاجرائية، وهو في تقديرنا “زلزال” سياسي له تبعاته الكبيرة داخليا وخارجيا.

ويفتح الباب أمام سيناريوهات كثيرة، لعل اهمها فشل كامل للمسار، الذي اختاره الرئيس قيس سعيد، بشكل منفرد لتونس.

وهو فشل – لو حصل – سيزيد من تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي وسيُؤخّر القيام بالإصلاحات الضرورية، ويزيد في إضعاف ثقة المواطنين عموما في المسار السياسي وفي كل النخب، فضلا عن مزيد اضعاف ثقة المستثمرين بتونس، وما يعنيه ذلك من مخاطر كبيرة.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP