اسقاط الجمهورية الثانية .. المقامرة غير المربحة
المهدي عبد الجواد
تتسارعُ الأحاديث في انتظار تسارع الأحداث. و يتجلى تدريجيّا استقطابا ثنائيا حادّا، بين أنصار “الشرعية” ممثلة خاصة في حركة “النهضة” التي تسيطر على البرلمان الذي يرأسه زعيمها راشد الغنوشي، وبين قوى أخرى وان كانت فشلت في الانتخابات، الا أن لها قدرات على التعبئة في صفوف “النخب”، كما انها تعمل على “توظيف” الصراع بين قرطاج والقصبة، الذي تفجر بعد تلويح الرئيس قيس سعيد في ما أعتبر من قبل الاسلاميين وأنصارهم “تحريض” على البرلمان، والتي سعت بعض الأطراف السياسي والنقابية ( الاتحاد العام التونسي للشغل)، الى “التقاطه” للمطالبة بالمرور الى الجمهورية الثالثة أو تنظيم استفتاء حول النظام السياسي.
تخترق هذا الصراع رؤى متناقضة، و يجمع كل فريق أعضاء تتباين أهدافهم، لا جامع حقيقي بينهم. ويدور الصراع حول الدولة و مؤسساتها، و حول صيغ و طرائق الهيمنة عليها.
فبينما يعمل الرئيس قيس سعيد على “تفجير المنظومة” برمتها لبناء منظومة بديلة لا نعرف لحد الساعة ملامحها، عدا عناوين كبرى حول نظام الاقتراع على الأفراد مصحوبا بآلية لسحب الوكالة في “طريقة” أثينية حالمة للديمقراطية المباشرة، علاوة على جعل نظام السلطة رئاسيا، فإن حركة النهضة تتمسك بالشرعية الانتخابية، و بالمؤسسات المنبثقة على “الارادة الشعبية”.
وفي حين يتمسك الرئيس بالقانون طريقة وحيدة للــ “تغيير” فإن أنصاره من مختلف المشارب يتداعون إلى باردو لإغلاق البرلمان، و يدعون إلى هدم منظومة الجمهورية الثانية للمرور إلى الجمهورية الثالثة، دون تحديد دقيق، لطبيعة النظام الانتخابي المأمول، ولا طبيعة النظام السياسي البديل و لا حتى طريقة المرور اليهما، وهو شعار “ركبه” سياسيين عرفوا بمعاداتهم لأطروحة الرئيس سعيد.
هذا الغموض في طرح “دعاة تغيير النظام” يفتحُ حراكهم على المجهول، إذ يُمكن ان يكون بابا مُشرعا على الفوضى من جهة، و يُمكن إن ينفتح في أفضل الحالات على مرحلة انتقالية ثانية طويلة و لا ضمانات في الوصول بها إلى تركيز قواعد حُكم ديمقراطي مؤسساتي قوي. ففريق الرئيس المليء بالنوايا الطيبة، يحمل في جيناته بذور شقاقه.
الرئيس الحالم .. و النخب الكريهة
شكّل قيس سعيد ظاهرة أخلاقية قيمية، قبل أن يكون ظاهرة سياسية. إذ انغرست في المخيال الجماعي الشعبي صورة له شفافة. الأستاذ المستقيم، المثقف الفصيح، السوي الذي يزهد في متاع السلطة و مغانمها، ينتصب بصورته ” الطاهرة” هذه، نقيضا للنخب السياسية و الحزبية و بديلا عنها.
و من خلال هذا التمثّل اكتسح الرئيس الانتخابات، و بات حارس الضمير الجمعي. و إن حافظ سعيد على هذا الخط، حاميا لهذه الصورة، فإن انخراط أحزاب ومنظمات وشخصيات سياسية ونواب واعلاميين وناشطي مجتمع مدني ومدونين في مبادرته والانتصار لطرحه، لا يستقيم.
قيس سعيد يرفض المنظومة في كليتها، بما في ذلك من سارع لسبب أو لآخر لنُصرته. ان التناقض بينه وبينهم جوهري، في معنى الفعل السياسي وقيمه. لذلك لا نعتقد أن قيس سعيد سيقبل بهذه الخطوة “التكتيكية/ البراغماتية” إذ يفقد من خلالها “الطهارة السياسية” مصدر قوته. ان رفض هذه النّخب سلوكها و خطابها و تصورها للفعل السياسي و لطرائق الاشتغال بالشأن العام جوهر مشروع الرئيس قيس سعيد، فكيف سيبني معهم مشروعا مشتركا؟؟ ناهيك على استحالة تمرير رؤى الرئيس في مبادرة تشريعية دون حشد أغلبية برلمانية تدعهما، و هو أمر يستحيل توفيره، و يستحيل المرور الى استفتاء، يُحدّد الدستور سُبُل اللجوء اليه في فصليه 82و144، و لا يشمل في اية حال ما يروم الرئيس و أنصاره تنفيذه.
يُقامرُ الفاعلون السياسيون والمدنيون بالدعوة للخروج على المنظومة في كليتها، دون محافظة على “خيط الشرعية” اذ يقود ذلك الى الفوضى الشاملة التي تُهدد الدولة و مؤسساتها. إذ أن الأمر لا يتعلق بالنظام الانتخابي والسياسي فحسب، بل يطال كامل البنية التشريعية الناظمة للفعل السياسي والمدني، فالمطلوبُ هو مراجعة مرسوم الأحزاب والجمعيات والإعلام، والقوانين المُنشئة للهيئات الدستورية، و العلاقة بين السلط، والقانون الداخلي لمجلس نواب الشعب..الخ. و سيُنتج ذلك ضرورة مراجعة مسائل التمويل و علاقة الجمعيات بالأحزاب و صلوحيات الهيئات الدستورية و مشمولاتها و تنظيم السّلط العمومية، و حتى السلطة المحلية و مجلتها. و لا نعتقد إن “شانطي” مثل هذا إذا فُتحَ سيُمكن للتونسيينُ انتاج منظومة توافقية بديلة عنه، ناهيك على إغلاقه دون اضرار.
الجمهورية الثانية .. نظام العطالة
إن المخاطر التي تلفّ الدعوة الى هدم الجمهورية الثانية، لا يجب ان تُخفي علينا مساوئ اللحظة التي نعيشها. إن خمس سنوات من عمر الجمهورية الثانية، كانت سنين عجافا. لم ير منها التونسيون غير نُخب سياسية فقيرة معرفيا، لا يستندُ فعلُها السياسي للقيم النبيلة ولا اهتمام لها بمصالح الشعب و البلاد. لم ير التونسيون إلا أحزابا متناحرة، وخصومات وخطابات تقتحم عليهم بيوتهم برديء الكلام و فاحشه. إن السياسة في جزء منها، تكمن في “التمثُلات les perceptions”، ويتمثل التونسيون الأحزاب باعتبارها فضاءات للزبونية وتقسيم الغنائم، والإثراء غير المشروع و ثقافة “تدبير الرأس”.
كما يرى التونسيون أن الأحزاب مخترقة بالمال الفاسد الداخلي والخارجي و مال المهربين و المتهربين، وان الدولة مستباحة، وان البرلمان لا يعكس صورة هذا الشعب و لا طموحاته.
تتنامى مشاعر “الحُقرة” في الجهات الداخلية التي قامت الثورة على ظهورهم، إذ يزدادون فقرا و تهميشا، و تغيبُ عند الحكومات المتعاقبة الرؤى الواضحة القادرة على “إحلام” الناس و خلق حُلم مشترك. و ان وجدت بعض محاولات، يعجز السياسيون على ايضاح مشاريعهم، نتيجة عجز اتصالي و سوء اختيار للمستشارين و المساعدين.
كما يعيش النظام السياسي حالة عطالة دائمة منذ 2014، تتصارعُ فيه نزعات الهيمنة، بين رؤوس السلطة، علاوة على تبرّم السلطة القضائية و مخاوف السلطة الرابعة. أزمة تفتيت السلطة الملقاة في كل مكان، بين سلطات منتخبة، برلمان و رئيس، و اخرى غير منتخبة رئيس حكومة و رؤساء هيئات دستورية مؤقته دائمة “هيئة مكافحة الفساد، و الهايكا..” او هيئات وطنية غير منتخبة “هيئة النفاذ للمعلومة، حماية المعطيات الشخصية…” حالة من الفوضى التنظيمية يزيدُها سوءا كيفيات الحوكمة، و الصراع داخل منظومة الحُكم نفسها. فائتلاف الحكومة مختلف عن الائتلاف داخل البرلمان. …
ورغم هذه الوضعية المعقّدة التي تعطّل جزءا مهما من العمل السياسي فإن الدعوة الى جمهورية ثالثة تبدو مسألة متعجّلة. إذ لا يُمكن لهذه النّخب المسؤولة على فشل الجمهورية الثانية ان تكون هي نفسها من بناة الجمهورية الثالثة البديلة، و إلا تحوّل الأمر إلى “لعبة ادوار” لا متناهية. فالديمقراطية تفرض القبول بنتائجها حتى و ان كانت كريهة.
صراع الشرعية و المشروعية
ان حل هذا الإحراج بين الشرعية و المشروعية، لا يكمن في الدفع نحو هذا الاستقطاب الحاد، فقد ينجرف بنا نحو العنف و الفوضى، في لحظة دقيقة تُعاني منها البلاد ويلات الكورونا و الإرهاب وتوقف الاقتصاد و تفاقم الوضع الاجتماعي سوءا. ينضاف الى ذلك، أن تونس جزء أصيل مما يحصل في ليبيا التي يتوجّبُ علينا “إدامة النظر” الى تطور الإحداث فيها.
ان تصورا عقلانيا جماعيا، يُمكن ان يتجاوز بنا هذه اللحظة، إذ نبدأ بفتح حوار جماعي يُشرف عليه رئيس الجمهورية و يُمكن ان يكون في إطار المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية، أو إحدى جامعات الحقوق بهيئة علمية وطنية محكمة تختار “بالتوافق” نظاما للاقتراع يتم اعتماده في الانتخابات التشريعية القادمة، و قبله في الانتخابات المحلية النصفية و انتخابات المجالس الجهوية. نظام اقتراع يضمن تصعيد أغلبية برلمانية تحكُم. يُمكنها ساعتها طرح مراجعة النظام السياسي.
Comments