الجديد

اعتذار فرنسا .. مشروع حقّ بالأيدي الخطأ

المهدي عبد الجواد

شرع مجلس نواب الشعب اليوم في مناقشة مشروع لائحة، تدين الاستعمار الفرنسي على ما ارتكبه في تونس من جرائم وفظاعات وتقتيل وتهجير و تعذيب و اغتصاب، ويُحمّله أيضا مسؤولية عقود دولة الاستقلال وما شابها من تجاوزات في علاقة بحقوق الإنسان والتنمية وحوكمة الثروات.

ولقد أثار هذا المشروع قبل وبعد بداية أشغال المجلس جدلا واسعا في كل الفضاءات و خاصة الفضاءات الافتراضية. وانخرطت فيه نُخب سياسية وأكاديمية بطرائق مختلفة ووفق مقاربات، تكشف حجم الاستقطاب الأيديولوجي الذي يشق البلاد، وخاصة حجم الانجذاب إلى الأسفل الذي تُصرّ النّخب على استبطانه وعلى تجذير كل مظاهر الفُرقة والتناحر والشقاق حتى في اشد القضايا الوطنية وجاهة وصدقية.

إن طلب الاعتذار من فرنسا على الاستعمار ومآسيه مطلب شرعي ومشروع و هو علامة سيادية و قضية وطنية جماعية، لكن أن يصدر على ائتلاف الكرامة الوجه السياسي المتهم بالتطرف الإسلامي منضافا إليه جرعات شعبوية وعنف خطاب يمسّ الجميع، أحياء وأمواتا، يُثير إحراجا عميقا للنّخب و للكتل البرلمانية.

ثمة مأزق حقيقي بين عدالة الملف، و “سوء نية” العارض،  فإئتلاف الكرامة، استهدف منذ تشكّل كل ما يتعلق بالذاكرة الوطنية، ودخل في مسيرة سياسية نالت من رموزها وشخوصها ومؤسساتها، ولم يستند في ذلك، إلا لسرديات شفوية شعبوية اعتبرت الجميع “صبايحية” الاستعمار، لذلك طال مطلب الاعتذار تاريخ تونس الحديث متجاوزا في حقيقة الأمر فرنسا، ونحن نعتقد ان ائتلاف الكرامة يواصل في حقيقة الامر ما عجزت عليه “هيئة الحقيقة والكرامة” من تشويه مُمنهج للتاريخ التونسي و تفكيك لمؤسسات الدولة.

لكن هذا المشروع هو في حقيقة الامر كغيره من “القضايا النبيلة” في الأيدي الخطأ، مثله في ذلك مثل:

– ملف الثروات و التدقيق في عقودها وأوجه التصرف فيها

– إعادة ترتيب الذاكرة و مراجعة التاريخ وكتابة تاريخ الحركة الوطنية والإصلاحية التونسية

– التنمية الجهوية والتوزيع العادل للثروات وإعادة توطين جزء منها في مواقع إنتاجها

– مقاومة الفقر و “الحُقرة”.

– تحقيق اهداف الثورة في التشغيل والكرامة

– محاربة الفساد و اقتصاد الاحتكار و الرخص و العائلات

– تقديم المسألة الوطنية والسيادة الوطنية ومقاومة أي تدخل خارجي في استقلالية القرار الوطني والتصدي لكل عمليات الاختراق الاستخبراتي…

كلها، وغيرها، قضايا عادلة و سليمة وجب أن يكون حولها إجماع من “النخب الديمقراطية”…لكنها أضحت مطالب حزب التحرير و ائتلاف الكرامة و كل التيارات الشعبوية الفوضوية المُعادية للحرية وللدولة الوطنية و “المُنبتّة” على مسارها التاريخي وصيرورته…

مٱزق وضعتنا فيها “نخب” تلهت عن هذه القضايا الحقيقية بمعارك النفوذ و الغنيمة والوجاهة الاعلامية والسياسية. لذلك تتوجب العودة إلى الجذور إلى البديهيات الوطنية، التي يُمكن ان تشكّل أرضيات لبناء اجماع وطني، يُراعي مصالح تونس، ويضمن لها ديمومة مصالحها مع البلدان الاخرى بما في ذلك القوى الاستعمارية القديمة.

ان تفكيك تاريخ الاستعمار عملية شاقة معقدة، تمرّ أولا من خلال التصالح مع الذات ومع الذاكرة، ولقد اشتغل فلاسفة كبار على تفكيك بنية الاستعمار وعلى التبشير بزمن “ما بعد الكولونيالية” أمثال ادوارد سعيد وفرانز فانون و ألبيرت ميمي، ولا نعتقد ان هذا الجهد الفكري النظري الذي يجعل “هدم التشويه” الذي مارسه الاستعمار على ضحاياه كان حاضرا عند “من يُتاجرون” بالاعتذار.

و يكون بناء شروط التحرر الاجتماعي و الاقتصادي ثاني الشروط الضرورية لتجاوز الحقبة الاستعمارية، إذ ان الاقتصاد الوطني في جزئه الأغلب قائم على التصدير فلاحة وصناعة وخدمات الى المستعمر القديم، وكان أولى بنا تشجيع رأس المال الوطني و المؤسسات العمومية على انبعاث اقتصادي وتأمين قطاع فلاحي قوي قادران على توفير ألأمن الغذائي والاستهلاكي للتونسيين، والا تبقى مثل هذه المشاريع مجرد “فولكلور” مضرّ بمصالح البلاد.

على النُخب الوطنية ومثقفي البلاد الانخراط الجماعي في مشروع وطني، تُسترجع فيه القضايا الحقيقية، مشروع يضمن انعتاقا اجتماعيا وتحرّرا سياسيا و أمنا غذائيا وتطورا اقتصاديا، بشكل يجعل تونس منارة للدول التي تضررت من الاستعمار.

وانخراط تونس مع الدول الشبيهة بها تاريخيا في “تحالف دولي” من أجل الاعتراف بالاستعمار بصفته جريمة ضد الإنسانية ودفع “الجلادين” الى الاعتراف بتجاوزات جدودهم، من شأنه ضمان عدم العودة الى هذه الجريمة، ومن شأنه الدفع في اتجاه تفكيك آخر البؤر الاستعمارية والاستيطانية في العالم ومنها فلسطين.

ان مشروع ائتلاف الكرامة “حرث في البحر” لا يروم اصحابه غير اثارة الفتنة الداخلية و الاضرار بمصالح تونس الخارجية واللوم ليس على ائتلاف الكرامة، بل على النخب التي نسيت “وجه قضاياها”.

ان إسقاط المشروع و إعادة صياغته بطريقة تضمن مصالحة تونس مع تاريخها وحاضرها، وتبني لها رؤية جماعية لمستقبلها أمر ضروري.

 

 

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP