اعلام التفاهة .. الاستثناء صار القاعدة !
المهدي عبد الجواد
يتجنّب السياسيون والناشطون في الفضاء العام عادة نقد الإعلام والاعلاميين، إذ أن كل من يدخل في صراع مع الصحافة والصحافيين يخسرُها لا محالة، نظرا لقدرة “صاحبة الجلالة” على تشكيل الوعي وتوجيه سلوكيات الجماهير .
أجد نفسي مُتحرّرا من هذه المخاوف فالمصلحة العُليا لتونس والديمقراطية اهم عندي من عواقب التجرّؤ على “إعلام التفاهة” الذي خرّب الحياة السياسية واساء لتجربة المسار الديمقراطي. لست صُحفيّا مُحترفا بالمعنى المهني، ولكني في عالم الصّحافة مذ كنت طالبا، ومقالاتي منشورة في مجلة حقائق والوطن والشعب وغيرها…
تكويني الأدبي وتخصّصي في الحضارة و”تاريخ الأفكار السياسية والتيارات الفكرية والاجتماعية بشمال افريقيا” ونشاطي النقابي واهتماماتي السياسية، سمحت لي بالانخراط المباشر في عالم الإعلام والصحافة المرئية والمسموعة والمكتوبة خاصة بعد بعد 2011، وادعي اني كنت في مواقع متقدمة وأن كانت غير رسمية، رافقت من خلالها”الانتقال الديمقراطي” منذ بداياته ومن داخله، كناشط في المجتمع المدني، ومدرب على الانتخابات وتنمية المهارات ونشر القيم المدنية والديمقراطية وإدارة التعدّد والاختلاف.
ثم كناشط سياسي في نداء تونس، وككاتب مقالات منشورة في الصحافة الوطنية أو العربية، ومحلل سياسي في وسائل الإعلام الوطنية والدولية وكمحاضر في منتديات داخل تونس وخارجها وكمدون على صفحتي الخاصة بموقع فايسبوك.
تجربتي من داخل “المسار/المسيرة” سمحت لي بتغيير مواقفي ورؤيتي نحو مقاربة أكثر عقلانية وشمولية وبرغماتية، متأثرا في ذلك بممارسة الواقع بعيدا على “تهوماتي الايديولوجية” زمن الشباب.
وانا بصدد كتابة تقييم لهذه “المرحلة” اطرح فيها ما اعتقد انه جدير بالتوثيق. ولكني أردت من خلال هذا النص الفصير التأكيد على “خطورة الاعلام” و”دوره السلبي” في تخريب هذه التجربة.
صحيح ان الإعلام كان له دور إيجابي في بروز قيادات سياسية جديدة، وفي إثارة قضايا رأي عام وتجذير النقاش السياسي والاجتماعي، وفي جعل المعلومة متاحة للجميع، ولكنه لعب ايضا دورا تخريبيا خطيرا.
فقد اخترقت الساحة الاعلامية، مثل غيرها اسماء لا علاقة لها بالصحافة، ولا تتمتع بأدنى شروط التكوين العلمي، فضيلتها الوحيدة هي اشتغالها لحساب الغير. لذلك ارتهنت وسائل الإعلام التقليدية في مجملها إلى “مراكز النفوذ” المالي والسياسي، وصارت تشتغل حسب الطلب. واضحى النقاش سطحيا تقوده ثقافة البوز، والرغبة في الاثارة دون التزام باخلاقيات المهنة الصحفية.
ويكفي متابعة تقارير الهايكا، وبيانات نقابة الصحفيين، وتذكر الصراع بين بعض الصحفيين ومؤسساتهم الاعلامية، ومعارك الصحفيين من أجل “إعلام حر وجاد” لنعرف كم يحتاج قطاع الإعلام إلى إصلاح مثله مثل غيره من القطاعات. لقد ساهم الإعلام التقليدي في تشويه السياسيين والاحزاب، ورذّل كل النّخب وغيّب صوت الجامعيين والمختصين، ورفع من شأن النكرات وانصاف الأميين و”مرتزقة كل العصور” وصنع “كرونيكورات” تشتغل لحساب الغير دون رقيب ولا ضابط، كرونيكورات تخرّب الوعي وتخلق معارك تافهة ووهمية تقوم بتضليل الرأي العام وتشويه الوعي الجماعي، ساعدها في ذلك “الانفجار غير المسبوق” في وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد منحت الدول الديمقراطية الإعلام مكانة رفيعة وجعلته السلطة الرابعة، وانضافت اليه قوة المجتمع المدني وصار دوره اليوم محوريا من خلال الثورة الرقمية، ولكن يبدو أننا في تونس لا نولي هذا القطاع ما يستحقه من عناية. فبظروف تشغيل هشة، وأجور زهيدة وغياب ضوابط “الانخراط المهني” التي تُخرّب القطاع الصحفي، لا يُمكن بناء إعلام جدي يرتقي بالوعي والنقاش العام.
طبعا استثني الكثير من المحاولات الجادة والبرامج الجدية التي اجتهد فيها اعلاميون اكفاء وفرق اعداد محترفة لتقديم مادة إعلامية هادفة وعميقة، واستثني الكثير من الصحفيين وعشرات المقالات التحليلية العميقة. ولكني أتحدث على الاستثناءات التي صارت هي القاعدة.
Comments