الجديد

اغتيال حلم الديمقراطية أم إكراهات الفشل الحزبي؟

شعبان العبيدي

من المسلّم به فلسفيا أنّ السياسة تقوم على واقع التعدّدية السياسة باعتباره أساس الديمقراطية، وكلّ عمل على إقصاء الاختلاف الحزبي السياسي والقفز عليه ومحاولة نفي الاختلاف الجوهري باعتباره جدلا منتجا هو تدمير للإنسان والدّيمقراطية وترسيخ للعنف المنظم عبر دوائر مؤسساتية كما تذهب إلى ذلك “حنّا أرنت” فلا يمكن بهذا المنطلق بناء مسار ديمقراطي وترسيخه ثقافيا و مدنيا وسياسيا من أجل تحقيق الحرية المطلب النواة للديمقراطية والأساس الفعلي لكلّ متطلبات الإبداع والخلق والعمل والإنتاج والنهوض بالسعي إلى التعالي على الفعل التشاوري التشاركي والأخذ بالأفكار المسبّقة المضادة للسياسة للانقلاب والتحايل على الصراع الحزبي ومنطق التداول السلمي على السلطة. وأي منطق يتبنى هذا الاتّجاه هو تمهيد لثقافة الاستبداد ومسعى إلى تحويل الدولة ومؤسساتها إلى آليات إدارية بيروقراطية بما أنّها تفتقر للإكسير السياسي.

انطلاقا من هذه المقدمة نتناول مسألة حكومة المشيشي المقترحة والتي جاءت ولادتها في الهزيع الأخير من الليل مع المزمّل في علاقتها بما ينتظرها في مرحلتين: مرحلة العرض على البرلمان وطلب جواز العبور والتصويت لها، علما وأنّه بدأ يظهر من خلال تصريحات الأطراف الحزبية عامّة ميل إلى منحها الثقة بل ذهب البعض إلى حدّ المناشدة والثناء على الرئيس وحكومته واختياراته وذكائه في مواصلة المسك بخيوط اللّعبة، ومرحلة الممارسة ومواجهة الواقع السياسي والاقتصادي والإداري والاجتماعي.

لا بدّ أن نشير أوّلا أنّ حكومة الكفاءات التي لطالما تردّدت على أفواه السياسيين الذين لم تسعفهم الانتخابات بالوجود أو الأغلبية أنّها ستكون الحكومة الأولى في تاريخ تونس تتمتّع بهذه الصفة على الأقلّ ظاهريا لإقناع الرأي العام لأنّ مقولة الاستقلالية هي مجرّد قناع من أقنعة المناورة السياسية، وأنّه منذ الدولة الوطنية وحتّى عهد الرئيس الذي قامت عليه الثورة  لم تكن الحكومات المتعاقبة إلاّ حكومات سياسية تابعة للحزب الواحد ورجالاتها كفاءات وطنية. فلماذا أمكن أن يلتقي السياسي بالكفاءة في عهد الحزب الواحد وتعذّر ذلك في عهد التعدّدية؟ أليس التشريع من البعض لحكومة الكفاءات والتطبيل لها وللرئيس هو حنين لمنطق آخر من الحكم الرئاسي؟

كيف ستتعامل الأحزاب ذات الأغلبية مع هذه الحكومة وإن كانت التصريحات الصادرة عن رجالاتها بما فيها قلب تونس وحركة النهضة تبدي ليونة في الخطاب ومغازلة تمهّد للتصويت لها. أم أنّ إحساسها بغليان الشارع التونسي وتراكم القضايا الاجتماعية والاقتصادية إضافة إلى عدم رغبتها في المخاطرة بالذهاب إلى سيناريو آخر سيجعلها تحكم العقل والمصلحة؟

لكن موقفها هذا الذي يمكن أن نعتبره وعيا بخطورة المرحلة أليس فيه وقوعا في مقولات الرئيس الشعبوية  ورفضه للأحزاب ودعوته إلى حكم رئاسي ولجان شعبية؟ كيف يمكن أن تتعامل هذه الأحزاب مع ما يطرحه مناصرو رئيس الحكومة المكلف على صفحته وتحذيره من أن تعمد الأحزاب إلى المصادقة على حكومته ثم تضع كلّ العراقيل لإسقاطها، وإن كنّا نعتبر هذا الخطاب ضربا من الهذيان، هل ستعمل حكومة الكفاءات التي جاءت بأبناء الإدارة التونسية في جزء منها ولكنّها غلّبت جماعة من أهل اختصاص القانون على التصدي للتفاهة والبروبغندا و الشعبوية والدجل وخدمة مصالح خفيّة أم أنّها ستواجه كلّ أشكال الرداءة في البلاد وتعيد قطار الدولة وهيبتها إلى السكّة وهي عارية الظهر؟

أم ستكون هذه الحكومة بداية وإعلانا لمرحلة تذوي فيها الديمقراطية التي تطمح إلى تمثيل الشعب وتتحوّل إلى ديمقراطية مخادعة لا تكون ضمانا للحياة والحريّة بالمعنى الواسع، وبالتالي يتمّ القطع مع الديمقراطية التشاورية بعد ضرب أسسها مثل اختيارات الشعب لممثليه عن طريق ممارسته لحق الانتخاب والاختيار وبالتالي يتحوّل هؤلاء النواب إلى مجرّد تحف أثرية في قصر باردو ليس بعيدا عن المعلم الأثري؟

أمّا الوجه الثاني الذي ستختبر فيه هذه الحكومة وكفاءة كفاءاتها هو الممارسة وما نعنيه كيف سيواجه أبناء الإدارة التونسية الذين ارتقوا إلى قيادتها قضايا المؤسسات العمومية المتعدّدة كالفساد والمحسوبية والرشوة والتملص من القانون وعدم احترام حقّ المواطن وهذه ظواهر تعمّقت بعد الثورة في المؤسسات الإدارية والأمنية والتربوية وغيرها ولكن الإعلام لا يتناولها ليزهر حجم الفساد الحقيقي وغياب الدولة مادام الإعلام في ذاته يسبح في البرزخ من التقاء الأضداد؟

خاصّة وأنّ أبناء الإدارة التونسية يعرفون هذه الوقائع والتشخيص والسؤال الذي يطرح: لماذا لم يواجهونها وهم مسؤولون مشرفون أم لم تكن لهم القدرة والسلطة أو الكفاءة على ذلك؟ كيف ستواجه حكومة الكفاءات قضايا المؤسسات العمومية وحجم الفساد والمشاكل فيها والتركة الكبيرة من الإجراءات والتجاوزات التي أورثها لها الرئيسان السابقان، هل تذهب هذه الحكومة التي من المفترض أن تعتمد في عملها على مبدا العقل والمصلحة والحسابات إلى التفويت في بعض المؤسسات التي نخرها الفساد أم أنها ستتخلى عن كفاءتها أمام الشريك الاجتماعي فتسقط في المقايضة والمحاباة؟

كيف ستواجه حكومة الكفاءات ملفات التعليم الذي انهار تماما تحت غطاء الإصلاحات والكتب البيضاء والخطب العصماء أمام استشراء الفساد الإداري والصمت عن التجاوزات في المؤسسات التعليمية ومشاكل اهتراء البنية التحتية مثل نقص الطاولات والكراسي وغياب مرافق الحماية وتحوّل الفضاءات المحيطة لها إلى عالم من الفوضى، هل هي قادرة على علاجها بشكل يوقف النزيف ويعيد للمؤسسات بريقها ودورها التربوي والاجتماعي أم ستبقى في حدود التحجج بالعجز و “عيش بالمنى يا كمون”؟

هل يدرك السادة الوزراء حجم الأزمة في الإدارة التونسية وما يتعرّض له المواطن في قضاء شؤونه من تعنّت وتأخير واعتداءات وتقضي على هذه المظاهر التي تمثل حجر عثرة أمام كلّ رغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية والمواطنة والديمقراطية؟

عموما تواجه الحكومة الجديدة : “حكومة الكفاءات” واقعا ملغّما يحيط بالنّهر الذي تبحر فيه من جانبيه أولهما رقابة البرلمان ومتابعة الكتل النيابية ومدى قدرتها على التنسيق معها بشكل يعيد الثقة والألفة بين السلط الثلاث ويمهج لخلق مناخ من التكامل والعمل التشاركي من أجل إخراج البلاد من الأزمة وثانيهما الواقع الإداري والمؤسساتي بلمفّاته الراكدة عبر الحكومات المتعاقبة وخاصة منها ملفات المؤسسات العمومية ومسألة التفويت فيها بعد ما بلغت مشاكلها حدّا لا يمكن الصمت عنه كما في الوكالة التونسية للتبغ والوقيد وما وصلته عمليات بيع التبغ من احتكار واستغلال، وكذلك الخطوط الجوّية التونسية ومشكل المؤسسات التربوية و قطاع المناجم.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP