الأديب التونسي صالح الدمس في حوار مع “وات” : المعرفة مضاد حيوي، والفقر والخصاصة والحرمان ليست مبررا للانحراف
تونس (وات) –
يعتبره البعض “الوريث الشرعي” لجماعة تحت السور وخاصة لكل من علي الدوعاجي ومحمد العريبي مؤسسي الحداثة في الأدب التونسي في ثلاثينات القرن الماضي. كتب المقالة والقصة القصيرة والرواية ولكن سحر الرواية لم يأخذه من القصة القصيرة . بدأ الكتابة منذ ما يزيد عن أربعين سنة وترجمت أعماله إلى الفرنسية والأنقليزية والصينية. كان يأمل أن ينهي دراسته لكن ظروفه الاجتماعية والصحية حالت دون ذلك. وكانت كل الظروف ملائمة ليصبح صعلوكا لكنه أصبح كاتبا، وقد حقق أحد أبرز أحلامه، فهو اليوم أحد أهم الكتاب التونسيين بشهادة الكثيرين، وهو رائد كتابة القصة القصيرة جدا أو البرقية المستمدة من تأثير عمله بسلك موظفي البريد. إنه الكاتب الروائي والقاص صالح الدمس أصيل منزل عبد الرحمان من ولاية بنزرت، هذه المدينة الصغيرة الجميلة التي يحيط بها البحر، والحاضرة تقريبا في كل مؤلفاته. وقد تحدث عنها بكل حب مستعيرا قول الشاعر “إنها أول أرض مس جلدي ترابها”.
ذات صباح صيفي مشمس، كان لنا لقاء مع هذا المبدع التونسي ورافقناه في جولة بين أزقة هذه المدينة التي لا يفصلها عن بنزرت مركز الولاية سوى 4 كلم (جنوب غرب)، وزرنا معه أكثر الأماكن المفضلة لدية والقريبة من نفسه، تلك الأماكن التي عاش فيها طفولته وصباه وكانت شاهدة على لحظات حزنه وفرحه وشقائه ويعيش فيها اليوم وهو في الثانية والسبعين من عمره أجمل لحظاته، كيف لا وهو أول كاتب قاص وروائي في هذه المدينة، الفخورة به وهو الذي نال جوائز من تونس وخارجها ويعترف بتميزه القاصي والداني.
فقد فاز الكاتب صالح الدمس بجائزة “علي بلهوان الأدبية” (2022 ) التي تمنحها سنويا بلدية تونس وذلك عن مجموعته القصصية “ما أسهل الحب” الصادرة عن دار سحر للنشر كما توج قبل ذلك بجائزة في القصة من الإسكندرية سنة 2005 في مسابقة شهدت تنافس ما لا يقل عن 42 مجموعة قصصية.
لقاء صالح الدمس وحواره مع وكالة تونس إفريقيا للأنباء، كان متعة حقيقية. لقاء، تحدث فيه الكاتب عن بداياته وعن مسيرته وعن الأحلام التي حققها وتلك التي لم تسعفه الظروف ليحققها، وتحدث عن العائلة والأصدقاء، وعن الحب في حياته وبكى حينا وضحك أحيانا…وبين الحين والآخر كان يمسح دموعه ليحكي طرفة أو يتوقف عن الحديث برهة فيغير نبرة صوته للحديث عن أمر جدي…إنه ببساطة، طفل كبير بقلب كبير…
قلبه الكبير هو ما جعله يهدي مكتبته الخاصة التي تضم 1200 عنوان إلى نزلاء السجن المدني بالناظور (سنة 2016) ، كيف لا وهو يؤمن بأن “المعرفة ليست تعلما فقط، بل هي مضاد حيوي ضد كل انحراف عن الحياة القيمة”. هكذا تحدث في سيرته الروائية “الجرح يبرأ” الصادرة عن دار خريف للنشر بداية العام الحالي.
رواية كانت منطلق حديثنا ومحوره الأساسي، لما تضمنته من تفاصيل دقيقة لكاتب عاش طفولة يراها البعض شبيهة بالطفولة القاسية للكاتب المغربي محمد شكري التي رواها في “الخبز الحافي”.
ومن المفارقات أن محمد شكري انتهت روايته “الخبز الحافي” وعمره عشرين عاما حين التحق بالدراسة في حين أن صالح الدمس انتهت روايته “الجرح يبرأ” وعمره عشرين عاما حين انقطع عن الدراسة . ويشترك الكاتبان في المعاناة من قسوة الأب وظلمه.
/// المعرفة مضاد حيوي ///
وقبل “الجرح يبرأ”، هذه الرواية السيرذاتية، كتب صالح الدمس عدة روايات أخرى منها “الرواية” 2000 و”حلم التفاح” 2009 و”المزوقة” 2016 ، وصدرت له عديد المجموعات القصصية منها “لا ينقصنا إلا الحب” 1986 و”دار الغولة” 1996 و”حكايا الأمير” 2003 و”ذاكرة الأخطاء” 2005 و”المرايا القديمة” 2008 و”الأمثال العامية اليهودية” (ترجمة) 2014 و”ما أسهل الحب” 2019
“بعد أكثر من ستين سنة، تمططت ذكريات عديدة واستيقظت آلام وأحزان جمة”… سنوات من الحزن والغربة والفقر والمعاناة، اختار أن يتحدث عنها ابن منزل عبد الرحمان. ذكريات فيها ما يتعلق بشخصه، وفيها ما يتقاسمه مع أبناء جيله. فقد استحضر في هذه السيرة “طوابي الهندي” وأشجار الزيتون، والرمان، والباب القصديري، و”المغلاق”، و”الحصير”، وجلد الخروف، و”الخوابي”، و”البابور البترولي”، و“الكشينة”…وتذكر… بل هو حاضر على الدوام…، ذلك الأب الذي “يحلق شاربيه على طريقة هتلر”…
ولكن لماذا قرر صالح الدمس أن يكتب سيرته وهو في الثانية والسبعين من عمره ؟
يقول الكاتب إن فكرة كتابة سيرته الذاتية كانت تراوده منذ التسعينات، لكنه كان يعتبر أن أفضل السير الذاتية هي تلك التي كتبت بالفرنسية لأنها أكثر جرأة، باستثناء سيرة محمد شكري في “الخبز الحافي”، وفكر في كتابة سيرته بالفرنسية، قبل أن يحسم أمره العام الفارط ويقرر إصدارها كاملة بالعربية، علما أنه كان تحدث عن شذرات من هذه السيرة في مجموعته القصصية “المرايا القديمة” وخاصة عن الليلة التي قضاها مع المشردين.
يقول صالح الدمس وهو يمسح دموعه التي انهمرت بغزارة على وجنتيه “أردت تكريم والدتي وتقديم درس وعبرة لمن يعتبر، في علاقة بالخصاصة”، لذلك تحدث عن تفاصيل من الصعب نسيانها. وكشف لـ”وات” عن أشياء تعمد ألا يذكرها في كتابه، منها ظروف طلاق والديه لأنه يعتقد أن المسألة ليست ذات أهمية كبرى للعمومـ بل الأهم هو تمرير درس مفاده أن “الفقر والخصاصة والحرمان ليست مبررا للانحراف” يضيف متنهدا، وكأن ما حدث جرى بالأمس القريب “كان بإمكاني أن أتشرد ولا ينتبه لي أحد”.
وقد أكد على ذلك في كتابه حين قال “كان يمكن أن أنحرف دون أن يلومني أحد، فالأرضية مناسبة جدا والظروف دافع قوي لكي أسلك طريقا مشينا” ولكنه يؤمن بشدة أن “المعرفة هي مضاد حيوي” ويكرر أن الكتب كانت “لقاحا حاسما” وكانت نبراس حياته ودرعه لعدم السقوط، فضلا عن أمه وصديقيه والإرادة الإلهية، ويؤمن الأديب صالح الدمس بأن “الإنسان الذي له نصيب من المعرفة يرى العالم بشكل مغاير”.
وعن رأيه في شباب اليوم وعلاقته بالقراءة ومدى وعيه بأهميتها يقول : “الشباب يدرك جيدا أن المعرفة أفضل من الجهل فلا أحد ينكر ذلك، ولكن ينقصهم الكثير من الصبر فهم لا يستطيعون أن يقضوا ساعة في القراءة”.
/// شبابنا فاقد للصبر ///
ويضيف الكاتب صالح الدمس الذي يقرأ الكثير من الكتب حتى وهو في الحافلة بين منزل عبد الرحمان وبنزرت، “لو تعود القراءة والمطالعة من جديد مادة إجبارية في التعليم سيعود لا فقط التلاميذ والطلبة للمطالعة بل أولياؤهم كذلك (يضحك…)”.
ويعتبر أن إرجاع البعض، ضعف الاهتمام بالقراءة لانتشار الانترنات، “حجة واهية، فالأمريكان والفرنسيون وغيرهم من الأجانب يطالعون رغم توفر التكنولوجيا والانترنات لديهم، فهم يستغلون إيجابيات التكنولوجيا إذ نراهم يطالعون الكتب على اللوحات الرقمية وعبر المواقع المتاحة على الانترنات في حين يستغل شبابنا التكنولوجيا للعب القمار أحيانا بدل المطالعة”.
وهو يرى أن اهتمامه الكبير بالقراءة هو الحافز الذي كان وراء خوضه تجربة الكتابة، مضيفا أن كتابة “الجرح يبرأ” لم تكن فقط لتقديم العبرة بل هي بالنسبة إليه وسيلة للعلاج، فقد كتب سيرته حتى يشفى من الأوجاع التي عاشها في طفولته، والتي لا تزال ذاكرته تحتفظ بأدق تفاصيلها، رغم أن والده مزّق كراس مذكراته حين تفطن لما يدونه من يوميات.
من أمام زاوية ومقام الولي الصالح سيدي علي الحشاني، التي لطالما أقيمت فيها الاحتفالات وحفلات الختان والزيارات للتبرك به، وتحولت في وقت ما إلى مركز اصطياف لدى الكثير من أهالي القرية والمدن المجاورة، يتحدث وهو قبالة الشاطئ، ينظر إلى الأفق البعيد : “يعتقد البعض أن طفل الخمس أو الست سنوات إنسان قاصر في حين أن هذا خاطئ فأنا أتذكر بعض التفاصيل حين كنت في الكتاب (المدرسة القرآنية)، بل أستحضر بعض الأكلات التي تطبخها زوجة أبي وإلى اليوم رائحتها الزكية في أنفي تثير شهيتي”.
/// الحب …ترياق ///
وتحدث صالح الدمس بكثير من التسامح والعرفان عن زوجة أبيه “المرأة الطيبة”، التي لم يكن لها دور في ما قاساه إلا نادرا، فاللوم كله على أب، لم يحضنه يوما، بل كان يجبره على احتساء الخمر، أب “لم يترك له الفرصة ليحبه” ، فقد كان “يتذكره ساعة المنحة وينساه ساعة المحنة”.
بعض المحن تحدث عنها في “الجرح يبرأ” والذي يبدو أنه لم يبرأ بعد، تلك المحن التي ساعده على تجاوزها صديقاه عبد الرزاق ومحمد وهما من أبناء خالته “شاذلية” التي لم يغفل عن المرور من أمام بيتها وهو يستحضر في حواره مع “وات” تلك الذكريات. كما حرص بفرح طفولي كبير على أن يحملنا في زيارة إلى بيت أمه “مكية” تلك التي “يتستر على محبتها” لأنه يعلم أن “العواطف المستترة أعتى من المحبة المفضوحة”.
“مكية” التي نجدها تتصدر جل إصداراته حيث خصها بالإهداء، هي الأم التي عانت من أجله وبكت وتعذبت وكتمت دموعها حتى لا يراها ابنها لأنها تعلم أنه “أكثر هشاشة من هشيم البلور”.
/// القصة القصيرة بيته المفضل ///
صالح الدمس الذي “أرهقته الطريق، وأثقلت كيانه الأحزان”، كان واعيا بضرورة تحمل المسؤولية لمساعدة أمه ولمغالبة الظروف القاسية، فطرق أبواب الشغل وعمل في البداية بديوان الخدمات الجامعية للشمال، قبل أن تتاح له فرصة المشاركة في مناظرة للبريد التونسي اجتازها بنجاح فاشتغل بسلك موظفي البريد وترقى في سلم المسؤوليات إلى غاية إحالته على شرف المهنة.
ولم تنته بذلك مسؤولياته، إذ يتحمل حاليا الكاتب صالح الدمس مسؤولية رئاسة فرع بنزرت لاتحاد الكتاب التونسيين حيث تم انتخابه منذ شهر جوان الماضي، وهو عضو في الاتحاد منذ ثمانينات القرن الماضي. وكثيرا ما كان يقول “أكتب لأحقق أحلاما مستحيلة”، فهل تحققت تلك الأحلام اليوم ؟
عن هذا السؤال يقول ابن منزل عبد الرحمان في حديثه مع “وات” وهو يتجول في شوارع المدينة ويلقي السلام بين الحين والآخر على أصدقائه وأهله : “حققت منها على الأقل حلما واحدا وهو أنني أصبحت كاتبا” . ويضيف : كنت أتمنى أن أصبح أستاذ رياضيات أو أستاذ عربية أو أن أصبح كاتبا، فلم أحقق حلمي بالأستاذية نظرا لانقطاعي عن الدراسة لظروف تحدثت عنها في الكتاب، ولكن كما قلت دائما : فرطت في حظي من الدراسة ولكن لم أفرط في حظي من المعرفة”، مشيرا إلى أنه حافظ على شغفه بالمطالعة وبقي في علاقة دائمة بالكتاب.
وعن تأثير عمله كموظف بالبريد في نمط كتابته، اعتبر أن اهتمامه وميله لكتابة القصة القصيرة جدا وهي من أصعب الأجناس الأدبية، مستمد من برقية البريد. ويعتبر أنه أول من كتب القصة القصيرة جدا لا فقط في تونس بل ربما في كامل الوطن العربي، مبينا أنه بدأ كتابة هذا النمط في بداية السبعينات في جريدتي “الرأي” و”الطريق الجديد”.
وأشار إلى بعض الأدباء التونسيين الذين كتبوا هذا الجنس الأدبي منهم إبراهيم الدرغوثي وساسي حمام ومحمد بوحوش، لكن كتابته تختلف عنهم، فالقصة القصيرة جدا التي يكتبها هو فيها حكاية كاملة دون الإغراق في البلاغة وفق تعبيره.
ولئن انتقل في كتاباته من القصة القصيرة إلى الرواية وعاد إلى المجاميع القصصية من جديد، فذلك لأنه يعتبر أن القصة القصيرة هي المناخ الملائم له وبيته الذي يستريح فيه، وبين أنه لم يسع يوما لنيل الجوائز، وليست هاجسه، حتى أن تتويجه بجائزة علي البلهوان العام الماضي عن مجموعته “ما أسهل الحب” كان من باب الصدفة كما يقول في حديثه.
/// ذاكرة تأبى النسيان ///
وبين صدور أول كتاب له “لاينقصنا الا الحب” (سنة 1986 ) و”ما أسهل الحب” (2019 ) مايزيد عن 30 سنة فما الذي جد في حياة صالح الدمس، لماذا انتظر كل هذه السنوات ليصل إلى قناعة مفادها أن الحب سهل ؟
عن سر هذين الإصدارين تحدث الكاتب بنبرة فيها الكثير من الهدوء والحكمة قائلا : الحب هو أسمى قيمة إنسانية لأن المحب لا يخون ولا يخدع ولا يسيء للآخرين فالحب عطاء وإيثار، وهو أفضل علاقة تربط البشر. والحب في نظر صالح الدمس ليس مجرد علاقة تربط بين الأنثى والذكر بل هو علاقة اجتماعية متطورة، والحب يجسد أيضا “أسمى معاني العلاقة بين الخالق والمخلوق”.
وكشف في حواره مع “وات” أنه كتب “لا ينقصنا الا الحب” أثناء الخميس الأسود في 26 جانفي 1978 لأن ما حصل آنذاك هو نتيجة خلو قلوب الناس من الحب فالكل يدافع عن نفسه.
أما عن “ما أسهل الحب” والتي كان عنوانها الأولي “ما أصعب الدنيا، ما أسهل الحب”، فهي نتاج تجارب الحياة وخبرة السنين التي توصل من خلالها إلى أن “الكره هو الذي يتطلب مجهودا، أما المحبة فهي سهلة وغير مكلفة فهي لا تتطلب مجهودا، يكفي أن تحب الأشياء والأشخاص وحتى البيئة المحيطة بك”، يقول، حتى تسير كل الأمور على أفضل وجه.
لذلك يلاحظ القارئ أن الرسالة التي تتكرر دائما في كتابات صالح الدمس هي الدعوة إلى الحب. هذا الحب الذي يملأ قلبه نحو المحيطين به، والذي لولاه لما كتب “الجرح يبرأ”، هذه الرواية التي تعكس مقولة “من رحم المأساة يولد الأدب”.
صالح الدمس ذلك الكاتب الذي يتميز بحساسية مفرطة، ذلك الطفل الكبير الذي يضحك بسرعة ويبكي بسرعة، له عطف خاص على الشرائح الاجتماعية المهمشة، لذلك كثيرا ما يكتب عنها، بأسلوب فيه مسحة من الحزن رغم ما في كتاباته من هزل، بل هي سخرية سوداء.
أسلوب خاص يميز كتابات صالح الدمس الذي لا يعرف الكره ولا الحقد، رغم ما عاشه من قسوة في طفولته وصباه، وهو ما يلمسه القارئ لسيرته الذاتية “الجرح يبرأ” التي يوثق من خلالها ما عاشه مع أمه التي توفيت سنة 2006 ووالده الذي فارق عالمنا سنة 2008 وزوجة والده التي توفيت أيضا سنة 2012 بطريقة تؤكد أن ما عاشه جرح لم يندمل، بل هو ذاكرة تأبى النسيان، لكاتب متميز، شديد التواضع، يرى أننا “مهما أُعطينا من ثراء لغوي ومخزون لفظي فإن الأحاسيس لا تدركها الكلمات”.
Comments