الأزمة السياسية في تونس سقوط في الثقب الأسود
شعبان العبيدي
مع استفحال الأزمة البرلمانية من خلال تواصل العنف المادّي واللّفظي الذي ظهر أخيرا تبعا لقرار مكتب المجلس منع زعيمة الحزب الحرّ من حضـــور ثلاث جلسات برلمانية رغم النّداءات الكثيرة للعودة إلى منطق العقل وتحكيم المصلحة الوطنية لكنّ الصّمم أخذ الجميع، ويبدو أنّه صمم مبرمج لتحقيــق أهداف يراها كلّ فريق ممكنة في هذه المرحلة.
من جهة ثانية يستمرّ الصّمم في مؤسستي الرّئاسة والحكومة، ويصـرّ كـــلّ من الرجلين على المضي قدما في الاستماع إلى صوت ذاته. ويبدو أنّ القبطان يعاني من صمــم كبير مع أنّه متواضع المهارة في فنّ القيادة. وهــــــــو متمسّك برفض الحوار وتقسيم الفضاء السياسي إلى أشرار وأخيار وصالحين وفاسدين. لذلك يسعى إلى السيطرة على السّفينة وحشد داعميه خلفه ومعجبيه الذين يكيلون له ألوانا من المديح شاجبين سواه، مأخوذين بالشعارات والخطابات والوعود الرتيبة.
في نفس الوقت يواصل رئيس الحكومة عدم اكتراثه بالأزمة، ويعمــــــل عبر المناورات والاجتماعات والزيارات تأكيد جدارته بقيادة البلاد بعد أن رفض تنحيته أو استقالته تحت ضغط القصر. يتساءل التّونسيون: وبعد إلى أين تسير البلاد؟ وماذا يجري بالضبط اليوم؟
تبعا للأحداث البرلمانية الأخيرة المؤسفة، وما وقع تداوله من عنف وسباب وخروج عن كلّ آداب المؤسّسات الرسمية، وقيم العمل السياسي، بـــات واضحا أنّ المجلس التّشريعي بات مستحيلا عليه الاستمرار. خاصّة وقد تتالت تصريحات عناصر من حركة الشّعب لا ترى مانعا في حلّ البرلمان تماشيا مع الدّعوات الّتي أطلقها أنصار الــــــرّئيس، وبالتّالي التّمهيد لسلطة الزّعيم الأوحد.
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أنّ عبير موسي نجحت فيما خطّطت له، وصرّحت به في اجتماعها الأخير، طبعا في أسلوب عدائي، بأنّها نصبت مصائدها وجرّت من تسمّيهم “الجرذان” للوقوع فيها. بمعنى أنّها حقّقت ما سعت إليه من فوضى وساعدها خصومها بالانجرار إلى العنف، إضافة إلى الإعلام الموجّه الّذي ينظر بعين واحدة وانخرط في المعركة ضدّ “الأشرار”.
في ظلّ هذا الوضع من الفوضى وغياب الدّولة أو الفراغ الذي تعيشه السّلطة التنفيذية يستمرّ رئيس الجمهورية في خطاباته الهوجاء. فهو لا يترك فرصة تمرّ دون أن يحمل بالتّهم على ” هؤلاء” و “هم”. بل بات واضحا من خلال لقائه الأخير بوزير المالية في حكومة الفخفاخ “محمد نزار يعيش” أنّ مكتبه يتعمّد بثّ كلماته في لقاءاته العادية لإثارة خصوم القصر ولمزيد تعميق الصّراع.
ويبدو أنّ رئيس الجمهورية يعتمد على حكومة موازية من خلال البلاغ الذي أصدرته الرئاسة وأعلن فيه خلال الاجتماع الذي جمعه بوزير المالية السابق وقـــدّم له تصوّرا للخروج من الأزمة، عن قبوله إجراء حوار يشارك فيه الشباب عن بعد، وينطلـــق من المحليّ إلى الوطني. ومعنى ذلك أن قيس سعيد متمسّك بفرض رؤيته السياسية المثاليــة للدّيمقراطية الشعبية المباشرة رافضا الدّيمقراطية التمثيلية أي الأحزاب. في الوقت الذي تتطلّب فيه البلاد حلــــــولا عاجلة ورؤية عقلانية. هذا إضافة إلى أنّ الشباب ممثلا في الأحزاب والجمعيات.
رفض رئيس الجمهورية للحوار الوطني الذي دعا إليه الاتّحاد العام التّونسي للشغـــــل وتقديم تصوّر جديد ينسف جهود المنظمة الشغيلة في إعادة التّوافق السياسي والاجتماعي.
إنّ هذا المسعى إلى تعويم قضايا البلاد الحارقة وتعطيل الدّولة بالدّعوة إلى حوار مفتوح مباشر مخاطرة بالانقلاب على المسار الدّيمقراطي وتحويل المحليات إلى ميليشيات. ولا يمكن لأيّ طرف يؤمن بالدّيمقراطية أن يدعمه في هذا التوجّه المحكــــــوم عليه بالفشل. ودون إدراك للانحرافات الخطيرة لهذه الدّيمقراطية الشعبية.
ثانيا أن الرئيس يستمرّ في رفضه للحكومة ومهامّها كما يضبطها الدّستور، وأصبح يقوم بمهامها ويعتمد حكومة موازية تمكّنه من التفرّد بالسلطة.
يبدو من خلف الستارة أنّ حرّس المنظومة القديمة مع منـــــــــاورات الأحزاب المؤمنة بالزعامة يطرقون الحديد وهو ساخن لمزيد تعقيد الوضع وهو يمنّـــــون النّفس باستعادة وضع أيديهم على الدّولة.
في ظلّ هذه الأزمة العميقة التي تزيد البلاد عزلة مع عدم فتح آفاق حوار جديّ ينتظره الشعب وينتظر معه حلولا، تدوّي صفّرات الإنذار وترتفع ساعة بعـــد ساعة، ولا شيء يتزايد إلاّ الخطابات الخادعة والأقنعة الشعبوية والتّهديد بتحريك الشّارع. والكلّ يتصوّر أنّه يمسك بأزرار القنبلة الشعبية الموقوتة. بما في ذلك من هذيان وعدم احترام للشّعب. ولا حلّ اليوم للخروج من الأزمة إلاّ بالتوجّه رأسا إلى حوار وطنيّ.
يمكن أن نقول إنّ البلاد دخلت اليوم مع هذه المزايدات والخدع السياسية والتّمــــــادي في تعميق معاناة البلاد والشّعب في ظلّ غلاء المعيشة وغياب مؤسسات الـــــــــدّولة وتمادي الاعتداء على الحريّات، أنّنا دخلنا في حالة الثقب الأسود أين يكون الشدّ قويـــــا بحيث لا يمكن لأي شيء النجاة من جاذبيته، ونحن نشعر أنّنا نسير إلى الهاوية وعالم بلا قاع.
Comments