الأزمة الليبية بعيون باحثين تونسيين: "ليبيا (2011 – 2016 ) داعش – الجوار – المصالحة"
كتاب جماعي، اشراف وتحرير منذر بالضيافي و عمر بشير الترابي
نتج عن الحركات الاحتجاجية في العالم العربي تدهور حاد في الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية لعدد من الأقطار العربية. تمثل ليبيا إحدى الدول التي عرفت انهياراً متسارعاً انعكست نتائجه بعد سقوط نظام معمر القذافي على المجتمع والاقتصاد والأمن، فدخلت البلاد في حرب أهلية دموية طال أمدها؛ نتيجة عدم قدرة أي طرف من الأطراف المتنازعة على الحسم في الميدان، وترافق ذلك مع الصراعات القبلية الدائرة على خلفيات سياسية واقتصادية. وعلى الرغم من أن العملية السياسية تتقدم، لكن من الصعوبة تحديد مسار إيجابي لنجاحها بشكل كامل، خصوصاً أن التحديات التي ستواجه ليبيا بعد الحرب أصعب بكثير من تحديات وقف الحرب.
الاهتمام التونسي كان جديراً بالدراسة والتوثيق، لذلك كان هذا الكتاب (
الذي أشرف عليه الباحثين منذز بالضيافي و عمر البشير الترابي ) رصداً للكيفية التي يرى الجيران فيها مستقبل أزمة ليبيا التي تؤثر عليهم.
لقد أدى سقوط نظام القذافي إلى انفلات العصبيات القبلية والجهوية، وإلى ظهور أحزاب سياسية جديدة اعتمدت على الولاء القبلي والشرعية الدينية، حتى تلك التي توصف بأنها ليبرالية وهي في الحقيقة أقرب إلى المحافظة السياسية. لم تظهر سيناريوهات تفكك ليبيا بعد «أحداث 17 فبراير»، إذ ثمة طبقات تاريخية مترسبة ترتبط بالتهميش الاجتماعي والسياسي والاقتصادي منذ الاستقلال. وتعكس معضلة بناء الدولة وفشل الأنظمة السياسية المتعاقبة في تحديث المجتمع بمختلف فئاته، وإشكاليات العلاقة التاريخية المأزومة بين الجماعات الليبية والسلطة، عمق التحديات الداخلية في ليبيا اليوم.
يسعى كتاب «ليبيا (2011-2016) داعش – الجوار – المصالحة» إلى تحديد المعطيات العامة لتشكل الأزمة الليبية بتشعباتها السياسية والاجتماعية والإقليمية والدولية.
وقد تناولت الدراسات العنف في ليبيا، وخارطة التيارات السياسية الجديدة، والانقسام السياسي الراهن، وتبعات التدخل العسكري الخارجي، وتداعيات تدويل الأزمة الليبية، وكيفية تعاطي دول الجوار الليبي مع مخاطر تمدد تنظيم «داعش» الإرهابي والجماعات الإسلامية المسلحة، إلى جانب دراسة فرص التحول الديمقراطي وإدارة الصراع. كل هذا بعين المراقب والمتابع والخائف من التأثر بتداعيات الفشل والتطرف.
إن مستوى التعقيد الراهن في الملف الليبي على علاقة بعوامل عدة، لعل أبرزها: غياب المؤسسات الحكومية الحديثة في عهد العقيد معمر القذافي (1942-2012)، وافتقاد البلاد لجيش نظامي حديث خارج الولاءات المناطقية والقبلية، هذا فضلاً عن التداخل الراهن للتحالفات القبلية والسياسية، والصراع المحموم على الموارد الاقتصادية. وقد أدى تدخل حلف الناتو (2011) إلى تفاقم الفوضى، استغلته الجماعات الجهادية (القاعدة وداعش) وحركات الإسلام السياسي نتيجة الفراغ السياسي والأمني.
بعد انهيار النظام (2011)، سقطت المؤسسات الحكومية ولم يبق من ليبيا سوى حدودها المعترف بها دولياً، ويرى بعض الباحثين أن ليبيا تحوّلت إلى أنموذج مثالي للحالة التي وصفها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) في كتابه «اللفياثان» بأنها حالة «حرب الجميع ضد الجميع، وفيها يكون كل واحد محكوماً بعقله الخاص، وكل شيء يمكن أن يستخدمه سوف يشكل له عاملاً مساعداً في حفظ حياته تجاه أعدائه، فينتج عن ذلك أنه في حالة كهذه، يملك كل إنسان الحق على كل شيء، بما فيه الحق على جسد الآخرين».
تقف أيّ حكومة ليبية مقبلة أمام تحديات كبرى، تناولها هذا الكتاب أولها: بناء مؤسسات دولة. وثانيها: تحديث المجتمع الليبي وتعزيز روابطه مع الدولة، وهذا التحدي يتلازم مع تطبيق المصالحة الوطنية بين الليبيين. وثالثها: إنعاش الاقتصاد الليبي المنهار في الوقت الذي تراجعت فيه أسعار النفط بحدة. ورابعها: القضاء بشكل كامل على تنظيم «داعش»، خصوصاً في الوقت الذي يُضيَّق الخناق فيه على التنظيم في العراق والشام، مما يدفعه نحو الهروب إلى أماكن أخرى، وليبيا على رأسها.
إن الفهم الدقيق للأزمة الليبية شرط ضروري لرسم الحلول المستقبلية. صحيح أن الحالة الليبية على درجة عالية من التعقيد، لكنها أمام مفترق طرق، وأمام خيارين لا ثالث لهما: إما استمرار الحرب الأهلية وتمدد الجماعات الإرهابية، أو التأسيس للعدالة الانتقالية التي يتقدمها تحقيق المصالحة الوطنية. وفي هذا السياق أدرجت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مجموعة من التوصيات في تقريرها الصادر عام 2012، ضمن عشر نقاط كان من بينها: «ينبغي للعدالة الانتقالية أن تشتمل، ليس على العدالة الجنائية فحسب، وإنما –أيضاً- على تقصي الحقائق وجبر الضرر والإصلاحات؛ بهدف ضمان ألا تتكرر مثل هذه الانتهاكات، وكنقطة بداية، ينبغي للسلطات الليبية النظر في وضع نهج اجتماعي فاعل لتقصي الحقائق، يضمن مشاركة شريحة واسعة من المجتمع الليبي، خصوصاً ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي والحاضر».
Comments