الاعتداء على سلمان رشدي… الصمت على الجريمة
المهدي عبد الجواد
لم أتفاعل بشكل مباشر وسريع مع الاعتداء الإرهابي الذي تعرّض به الكاتب والروائي الانجليزي من أصول هندية سلمان رشدي. انتظرت حتى أرى تفاعل “النخب” التونسية، والاحزاب السياسية التونسية مع هذا الحدث “المرعب” الذي هزّ العالم، فقد سارع كل قادة العالم إلى ادانته وعبر رؤساء دول وحكومات ومثقفين وجامعيين ومبدعين على تعاطفهم الشديد مع الضحية. فيما استبشرت الاوساط الشيعية المحافظة والمتطرفة بما حصل.
أما في تونس فإن شيئا من ذلك لم يحدث. فباستثناء بعض الحقوقيين والجامعيين الذين أصدروا بيانا يتبرؤون فيه من “الجريمة” فإن أغلب الأحزاب والشخصيات السياسية الرسمية والمعارضة وحتى النشطاء المستقلين وقوى المجتمع المدني والمنظمات الوطنية “ابتلعت لسانها” وصمتت على الجريمة. ويبدو لي أن موقفها ب”الصمت” هو دليل على نفاقها في علاقة بادعاء تبني القيم الديمقراطيّة والحريات ونبذ العنف والإرهاب.
وهذا الصمت المُريب لعلّه يعكس خوفا من ردود أفعال “الحشود” أو قد يكون نتاج موقف ضمني “يُباركُ” الجريمة باعتبارها ردّا على استهداف رشدي للمقدسات الإسلامية. هادي مطر الإرهابي اللبناني الشيعي المذهب، هو أمارة حية، على أن التعصب الإسلامي هو نفسه، شيعيا كان أو سنّيا. وقد بينت كل التقارير الإخبارية أن “الإرهابي” ينحدر من قرية يارون جنوب لبنان والتي يُسيطر عليها حزب الله، وتُزيّن جدرانها ملصقات “روح الله الخميني”.
نفس هذه الروح المجرمة هي التي حركت “آلاف الارهابيين” السنيين للالتحاق بداعش وارتكاب الفضاعات باسم “الاسلام” ودفاعا على “الله”. ولد هذا الإرهابي سنة 1998 اي بعد عشر سنوات تقريبا من فتوى الخميني، وبعد وفاة صاحبها اصلا، وهذا دليل على أهمية اللغة والخطاب وقدرتهما على “الصمود”، وهو دليل على خطورة دعوات التكفير ورغبات الاقصاء التي تُهيمن على الخطابات السياسية المعاصرة، في تونس أو في غيرها من البلدان الإسلامية.
تذكر والدة “الارهابي” ان زيارة ابنها إلى جنوب لبنان سنة 2018، قلبت كيانه تماما. فقد صار شخصا متطرفا، وعزل نفسه على العالم، وهو ما يؤكد كونه تعرّض دمغجة و”غسيل للمخ”، ومن المؤكد أن هشاشة التكوين العلمي وضعف التكوين الديني وتأثير ظروفه العائلية، أذ أن والديه مطلقان منذ سنة 2004، فضلا على الآلة الدعائية الضخمة التي يمتلكها حزب الله ومهارات الاستقطاب لدى انصاره، كلها عوامل جعلت هذا الشاب الأمريكي يتحول إلى قنبلة وارهابي. وانا على يقين بكون هذا “المجرم” غير مطلع – مثل الكثيرين- على كتاب “الآيات الشيطانية” فضلا على معرفة بحكاية “الآيات الغرانيق” في التراث الفقهي الإسلامي. وقد ورد ذكرها في أمهات كتب الأصول مثل مؤلفات الطبري، وعبد الله بن العباس والعسقلاني، وعليها اختلاف كبير بين فقهاء المسلمين وعلماء الحديث.
إن التعاطف مع أحمد سلمان رشدي، حاجة طبيعية وضرورة انسانية، فالانسانية هي في جوهرها رحلة طويلة للقطع مع كل أشكال الهمجية والعنف والتعصب، وهي مسيرة لإدارة الاختلافات حتى أكثرها عمقا، بطريقة سلمية بعيدا على العنف والدماء والكراهية. إن ما حصل لسلمان رشدي هو نتيجة منطقية للشحن الايديولوجي والديني، وهو نتاج استثمار البعض في خطاب رفض الآخر وتعميق مشاعر الكراهية والتنافي بدل ثقافة الحوار والقبول بالاختلاف والتسامح.
وهو لعمري درس مهم يجب أن تتوقف عنده مختلف التيارات السياسية في تونس، ومختلف التيارات الإسلامية بصفة اخص. إن “اللعنة اذا خرجت لا يُمكنُ اصلاحها”، ولا نستطيع أن نعلم بشكل دقيق ما الذي يُمكن أن تقود اليه لغة التكفير ولغة الرفض والتخوين التي تحولت إلى رياضة شعبية في تونس، يُشارك فيها الجميع بدرجات متفاوته، سلطة ومعارضة، نخبا ومواطنين سلمان رشدي كسب شهرته من “فتوى الخميني”، وسبق لي وأن قرأت روايته منذ أكثر من عشرين عاما، وهي روائيا نص لا يستحق الاهتمام، إذ لا تتوفّر فيه شروط الكتابات العظيمة، ويفتقر إلى مقومات الابداع السردي.
استفاد سلمان رشدي بأن تحوّل إلى “أيقونة” الحرية، فهو رمز النضال من أجل حرية التعبير ورمز “المضطهدين” من أجل أفكارهم وكتاباتهم الذين يجدون الملاذ الآمن والحماية في العالم الحر، هربا من الهمجيين والمتطرفين الذي يسيطرون على “العالم الآخر”. واستقر رشدي في أمريكا “محور الخير” فيما استوطنت الفتوى إيران وفضاءها بما هي “محور الشر”.
واستفادت ايران بان قدمت نفسها للعالم الشيعي ثم للعالم السني باعتبارها “المدافع على الله/الاسلام”. اليوم لا نملك الا ان نأسف لمصير سلمان رشدي، وأن نأسف لحال هادي مطر الذي أضاع نفسه وراء “فتوى” نعلم جميعا انها كانت ذات غايات سياسية لتحويل وجهة الإيرانيين على الهزيمة ضد العراق.
ولكن علينا أن نُدرك أن الهشاشة الانسانية يُمكنُ أن تجعل من الكثير من شبابنا قنابل وارهابيين، وليس علينا أن نُهوّن من خطورة الخطابات العنيفة، التي قد تتحول في كل لحظة إلى أفعال عنيفة. وعلى الجميع واجب إدانة هذه الجريمة وخاصة واجب العمل من أجل القضاء على اسبابها، وهو أمر غير ممكن خارج دولة مدنية ديمقراطية قائمة على المواطنة وحقوق الانسان، يتمّ فيها بناء مجتمع الإنسان من خلال إصلاح شامل للدين والأخلاق ومختلف مناحي الحياة.
Comments