الجديد

الاعلام: الخروج من الأزمة .. ممكن؟ 

شعبان العبيدي

يمثّل الإعلام ما قبل الثورة وبعدها وجها من وجوه أزمة البلاد، وسلطة من السّلط المتحكّمة في المشهد الوطنيّ ظلّ محلّ نقد واتّهام وأحيانا سخطا من الرأي العام. ودعونا نقول أنّه إذا كان الجميع متّفقون على أنّ الفساد بمختلف تجليّاته والّذي كان السبب في الإطاحة بالنّظام السّابق واستمرّ ساريّا في جهاز الدّولة والمؤّسسات والسّلوك الاجتماعي فإنّ الإعلام في حدّ ذاته مصاب بهذه المتــــــلازمة المرضية المعديّة للانفصام الممثل في فقدان الحرفية والواقعية والدّقة والانسياق وراء الهلــــوسات والإشاعات وعدم فهم وظائف الإعلام الحقيقية وكيفية التعامل مع الخبر في ظلّ سيطرة الأدوات الرقمية وتعقّد الواقع الوطني والعالمي. بل إنّ هذا الفساد بات اليوم حالة ذهنية وسلوكية عامّة.

ويمكن للدّارس متابعة المشهد الإعلامي من مرحلة الثورة التي فاجأته وهو مدجّن لخذمة السلطة فوجد نفسه في وضعية ضياع وخوف بالنسبة للقائمين عليه. ثمّ ما لبث هؤلاء أن بدؤوا يحــــاولون التأقلم مع الواقع الثوريّ الجديد وخلع إيهاب الولاء والتمجيد الأحمر برفع شعارات الثورة والانخراط في مراجعة المواقف والواقع السياسي الذي دافعوا عنه.

ولكن لم تمرّ مدّة قصيرة من الزمن حتّى عــــــــاد الإعلام التونسي بوجوه جديدة لا علاقة لها بالاختصاص الإعلامي أو برسكلة الوجوه القديمة وضخّ وجوه أخرى بطرق المحسوبية والولاءات ليفتك هؤلاء المشهد الإعلامي من جديد، وينخرطوا في لعبة المؤامــــرات والصراعات السياسية وتعميق التقسيم السياسي والاجتماعي، في حين نشطت في القسم التنشيط برامج التفاهة المملة والفوضى والوهم الإعلامي الذي يتوجّه إلى فئات الشباب والمراهقين لمزيد تدميـــــــرهم وإفراغهم من أيّ بعد تربوي وإبداعي أو قيمي وطنيّ.

بل أصبح يروّج للخرافة والتنجيم. وبهــــذا يخلق إعلامنا من يتجاهله وانعدام الثقة فيه. ولكنّ أثره يبقى عميقا في هذه الفئات وفي نشر الإشاعات وتعميق اليأس والتنويم المغناطيسي والتلاعب بالعقول وبعد أن أصبح كلّ شيء رهانا للكسب، وهو ما يشير إليه علماء النفس الاجتماعيين مثل “ستيفان لورينز”. ولهذا قلنا إنّ مهنة الإعلامي قد كشفت خلال هذه العشرية عن أزمات حادّة مرتبطة بالآداء وغياب الحرفيّة وطرق استهلاك المعلومات ونقلها وتقصّيها.

غير أنّ بوادر النّور والإضاءة وسط هذه العتمة نجدها حاضرة في جزء من الإعلام المكتوب وخاصّة في الصّحف الرقميّة التي باتت تلعب دورا رياديّا في النّهوض بالوظائف الكبرى المنوطة بالإعلام سواء على مستوى ما تقدّمه من قراءات نقدية للواقع كليّة، أو على مستوى القراءات والحلول التـــــي توردها بأقلام المختصين والمحرّرين في مختلف المجالات الفنيّة والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بعيدا عن ثقافة البوز وبعيدا عن الخطابات الانفعالية الهوجاء والاصطفاف الأيديولوجيّ الأعمى. وبــــــاتت هذه الصّحف الإلكترونية اليوم في بلادنا مرجعا للفهم والتقييم وتقديم الحلول وتفكيك مظاهر الأزمة.

وكذلك في سعيها إلى الإلمام بالمادّة الإعلاميّة الرصينة العلمية والموضــــوعية في مختلـــــــف وسائل الإعلام العالمية، نذكر من ذلك مثابرة موقع التونسيون على ترجمة وتقديم قراءات كبار رجال القانون التونسيين والمختصين الاقتصاديين والإعلاميين البارزين وتقديمها للقرّاء لمزيد تحديد الخيارات السياسية والرّؤى الإصلاحيّة.

كما يمكننا أن نشير من جهة أخرى أنّ هناك بــــــــرامج إعلاميّة نجحت في اختيار طريقها ومواضيعها، وأصبحت فعلا سلطة أولى على المستوى الوطني، بما تميّزت به من حرفيّة ونزاهة ودقّة في تتبّع الخبر والبحث عن خيوطه مثل برنامج الحقائق الأربعة الذي يبث على قناة “الحوار التونسي”.

إذ بيّن هذا البرنامج القيمة الصحفيّة للصّحفي حمــزة البلومّي وفريقه من خلال القضايا والمواضيع التي تناولها بكلّ جــــرأة وشجـــــاعة، وانخرط فعليا في النّهوض بوظيفة كشف الحقائق للدّولة والمجتمع.

وأعتبر أنّ البرنامج الأخير الذي بُثّ ليلة 24 ديسمبـــــــر 2020 برنامجا رائدا من حيث تنظيمه وتوحيد مختلف المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة والخاصّة والعمومية فيه تحت دعوة من المعهد العربي لرؤساء المؤسسات، ومن حيث منهجه ومشاركة وجوه إعلامية في إدارة حواراته عملا مهنيا مفيدا وذلك للأسباب التّالية:

-ابتعاده عن التوظيف السياسي وعن مشاركة السياسيين الذين برهنوا خلال كلّ ظهور وخاصّة اعتمادا على حسابات إعلامية ولوبيات في تكــــرار حضور وجوه لضرب الحكومة ومزيد تشويه وتعفين الجوّ السياسي في التهجّم على خصـــــومهم السياسيين باعتمـــــاد الشائعات والتحـــاليل الاقتصادية التي يجهلونها أصلا.

-اعتماد خطاب اقتصادي لمجموعة من الخبراء وممثلين عن المجتمع المدني ممّن يــــدافعون عن الفئات الاجتماعية الضعيفة، وكان حوارا ثريّا ومقنعا قدّمت فيه حلول ومواقــــف ورؤى لأصحاب القرار تمكّن من محاصرة الأزمة الاقتصادية ومعالجة مشكل الاقتصاد الموازي والتهرّب الضريبي والدّعم والمديونية والضغط على نفقات الدّولة.

-قيام البرنامج على منهجية واضحة جمعت بين التشخيص والحلول، وجمــــــع فيها المشاركون بكلّ موضوعية وهدوء بين الأسباب السياسية وعدم الاستقرار الحكومي الذي لم يمكن الحكومات المتعاقبة من المضي في أيّ برنامج إصلاحي، وهو ما كان من نتائجه تعطّل كلّ عمليات البناء والتنفيذ، وأسباب اجتماعية تمثّلت في الرقم المهول لعدد التحرّكات والاحتجاجــــات الّتي عطّلت الإنتاج والمرافق والتي بلغت 3387 حركة احتجاجية، هذا إضافة إلى ضعف الدّولة وأجهزتها الرقابيّة بالنّظر إلى نسبة الهجرة غير الشرعية التي بلغت 12500.

وعدم نجاح الحكومات في تحقيـــــق مطالب الثورة الأساسية وهي التشغيل والكرامة والعدالة بالنظر إلى ارتفاع نسبة البطالة وتفاقمها اليوم مع مخلّفات الوباء. ثمّ الحلول الاقتصادية العاجلة وبعيدة المدى لإخراج البلاد من العجز المالي والمحافظة على توازناتها والحدّ من التداين الخارجي واستعادة حركية الاستثمار الاقتصادي خاصّة في المناطق ذات الأولوية.

عموما أعتبــــــــر هذا البرنامج وأنا أتابعه لحظة بلحظة درسا لإعلاميي البوز و لأصحاب الخطابات المسعورة التي تدفع نحو مزيد تجييش التونسيين وتقسيمهم وتحريض بعضهم على بعض في حين يقع تغييب وإقصاء من برهن من خلال حضوره الإعلاميّ عن قدرة تحليلية و دقّة وموضوعية في تناول الأحداث لا لشيء إلاّ لأنّه لا يرضي هذه اللّوبيات ،ودرسا لكثير من الموظّفين من طرف لوبيات سياسية واقتصاديـــــــــة الذين شوّهوا المشهد الإعلامي بزعيقهم و ادعائهم العلم الكليّ .

انّ هذا البرنامج مثل غيره دليــــــل على أنّ إصلاح الإعلام    ممكن في بلادنا، ودليل على أنّه يمكن أن يكون إعلامنا مرجعا ومثالا لإعـــــلام عربي وقطريّ مؤمن بــــرسالته التربوية والإخبارية والسياسية و الوطنية في رسم برامج الدّولة المدنية وخياراتها.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP