الانتخابات البرلمانية في تونس وهيمنة منطق المقاطعة والمواجهة: لن ينهزم قيس سعيد ولن تنتصر المعارضة
هشام الحاجي
توجّه التونسيون إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم وتحديد تركيبة المجلس النيابي الجديد. ولا شك أن لهذا الموعد الانتخابي أهميته التي لا تخفى من حيث السياق الوطني والدولي الذي يتنزل فيه. ففي ما يتعلق بتونس يمثل موعد 17 كانون الأول/ديسمبر محطة لجولة أخرى من الصراع السياسي بين قيس سعيد ومعارضيه علاوة على أن البرلمان المقبل سيكون في كل الحالات تجسيدا لجانب من رؤية قيس سعيد للدولة وتنظيم «السلطات» والنظام السياسي.
وتجرى انتخابات مجلس نواب الشعب في ظل هيمنة منطق المقاطعة والمواجهة والتوتر على علاقة قيس سعيد بالأحزاب السياسية وأيضا المنظمات الاجتماعية وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل. هناك أيضا وضع اقتصادي واجتماعي ضاغط وخانق وغير مسبوق يمثل خلفية المشهد الذي تنتظم فيه الانتخابات، وسياق دولي سمته الأساسية تنامي الصراعات والتوترات إقليميا ودوليا.
مجلس نواب الشعب المرتقب لن يلعب دورا في رقعة العلاقات الدولية ولكن هناك «انتظارات» من بعض الدول من هذا البرلمان وهو ما عبّر عنه بوضوح وزير الخارجية الأمريكي انطوني بلينكن يوم الأربعاء الماضي عند لقائه بالرئيس التونسي قيس سعيد حين أشار إلى أن واشنطن تتطلع إلى أن تكرس انتخابات 17 كانون الأول/ديسمبر الجاري التوجه نحو الشفافية والديمقراطية.
ولكن ما يبدو لافتا للانتباه وجود ما يمكن اعتباره مفارقة حقيقية بين الرهانات التي تنطوي عليها هذه الانتخابات وحالة الفتور واللامبالاة التي يتعاطى بها الرأي العام التونسي مع هذا الاستحقاق الانتخابي. عوامل عديدة تكمن خلف هذا الفتور واللامبالاة. فهناك مشكل في غياب رهان انتخابي حقيقي. هذا الغياب يمكن اعتباره أمرا يختص به هذا الاستحقاق وينفرد به منذ استقلال تونس إلى الآن. وحمل كل موعد انتخابي، بما فيها التي جرت في ظل حكم الحزب الواحد أو التعددية السياسية «المقيدة» رهانات ذات طابع جماعي لأنها كانت توفر مجالا للتنافس الجماعي الذي يغيب في انتخابات 17 كانون الأول/ديسمبر الجاري. غياب الأحزاب السياسية أفقد هذه الانتخابات بعدها الجماعي وهو ما أصابها بالفتور. ولا يمكن تحميل قيس سعيد لوحده مسؤولية حالة الإحباط التي أصابت الرأي العام التونسي والتي أدت إلى لا مبالاة شبه عامة من الاستحقاق الانتخابي. ساهمت الأحزاب السياسية التي تصدرت المشهد السياسي في العشرية الأخيرة في الوصول إلى هذه الوضعية لأنها ساهمت في تشكل تجربة سياسية هجينة ومشوهة لم تقدر على الصمود من ناحية وأعادت الرأي العام إلى مربع اللامبالاة والعزوف والمقاطعة. وقد زاد قيس سعيد الطين بلة لأن الانتخابات التي تكرّس عمليا تفرده بالسلطة و «قضمه» التدريجي للدولة ولتجربة ما بعد 14 كانون الثاني/يناير 2011 تجري دون نقاش عمومي بل في سياق تراجع سقف الحريات في ظل المرسوم 54 الذي يفرض قيودا إضافية على حرية التعبير. ويضاف إلى ذلك أن الاقتراع على الأفراد همّش دور الأحزاب السياسية التي لا يمكن رغم ما يمكن تقديمه من تحفظات، إنكار دورها في احتضان الحوار وخاصة في إعداد السياسيين. وحين تغيب الأحزاب، أو يفرض عليها التحرك خلف الستار كما هو الحال في انتخابات17 كانون الأول/ديسمبر الجاري، فإن من الصعب أن تبرز قيادات رأي لها اشعاعها ولها أيضا برامج مقنعة. ولا يمكن المرور بسرعة على «ملمح» المترشحين للانتخابات التشريعية المقبلة.
الثقافة السياسية
تابعت بحكم اكراهات المهنة، تقديم عدد كبير من المترشحين لبرامجهم في إطار برامج تلفزيونية. وهناك قلّة تكاد لا تذكر من المترشحين يملكون زادا معرفيا محترما وتجربة سياسية وجمعياتية مهمة. ولكن الأغلبية الساحقة تخبط خبط عشواء وتفتقد للحد الأدنى من الثقافة السياسية بل ومن التمكن اللغوي. هذا المعطى يمكن أن يعكس ما أصاب التعليم في تونس من تراجع وأيضا الانعكاسات الكارثية لغياب التثقيف السياسي وما يرتبط به من تحول الالتزام السياسي إلى أداة للتموقع والبحث عن «المنافع» والامتيازات ولكنه يعمق القطيعة بين الرأي العام والحقل السياسي وما يرتبط به من رهانات واستحقاقات. هذه المعطيات تصبّ في اتجاه التأكيد على أن قيس سعيد سيكرّس مؤسسة صورية بدون عمق شعبي وأيضا بدون دور واضح ومحدد خاصة وان صاحب شعار «الشعب يريد» ينفي عن المجلس التشريعي كل ما يمكن أن يجعل منه «سلطة» ويعتبره مجرد «وظيفة». هذا التصور الملتبس للمجلس النيابي هو أحد أسباب لا مبالاة الرأي العام التونسي. كل هذه المؤشرات تفسّر حالة العزوف عن القيام بالواجب الانتخابي الذي كان واضحا وجليا يوم 17 كانون الأول/ديسمبر وهو ما يعني أن:
– حالة القطيعة بين الرأي العام والمؤسسات السياسية ستزداد وستتعمق وهو ما يضرب امكانية إصلاح مسار الانتقال الديمقراطي المعطل منذ فترة.
– تهميش الأحزاب السياسية يؤثّر على شعبية المجلس التشريعي ويدفع الأحزاب إلى ازدواجية السلوك.
– حالة ضعف مشاركة المرأة وإمكانية أن يكون حضورها في المجلس التشريعي المقبل ضعيفا للغاية يمثل مؤشرا إضافيا على تبني قيس سعيد لأفكار محافظة ولكنه يمثّل خاصة ضربا لأحد الأسس التي انبنى عليها النظام السياسي التونسي والهندسة الاجتماعية لتونس ما بعد الاستقلال. هذا ما لا تقبل به قطاعات من التونسيين ويمثّل أيضا توجها لا ينظر له بعين الرضى في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
– غياب الأحزاب السياسية يمثل في حد ذاته عنصرا له دوره في تنمية التوجه نحو المقاطعة وهذا عامل مهم خاصة وان تراجع دور وتأثير الأحزاب السياسية يفتح الباب أمام بروز المنطق الجهوي والمناطقي الذي يضرب منطق البناء الوطني.
– المعارضة لن تنتصر لأن العزوف المنتظر لا علاقة لها به بل هو وليد مزاج عام وتقييم لأداء الحكومة. المعارضة توهمت أن انتخابات 17 كانون الأول/ديسمبر ستكون موعد الإعلان عن هزيمة قيس سعيد وأن الانتخابات لن تجرى. هذا «الرهان» الخاسر سيزيد في عزلة المعارضة وفي إضعاف مصداقيتها.
Comments