الجديد

الباجي قائد السبسي.. الأهم والمهم

ماجد البرهومي

غالبا ما تفرض ” الكتابة الاحتفالية ” صعوبات إضافية على من يريد التفاعل مع المناسبات المرتبطة بأحداث وطنية أو دولية أو بشخصيات تركت بصمتها في مجال اشتغالها. و لا شك أن الصعوبة تزداد حين يتعلق الأمر بشخصية في حجم و حضور و إسهام المرحوم الباجي قايد السبسي الذي نتأهب لاحياء مرور سنة على وفاته، يوم السبت 25 جويلية الجاري، وبهذه المناسبة نخصص في موقع “التونسيون”، ملف حول الرئيس الراحل والزعيم الوطني، والرجل الذي ارتبط اسمه عضويا بمسار الانتقال الديمقراطي، الذي انطلق بعد ثورة 14 جانفي 2011، وننشر في ما يلي مقال للباحث والحقوقي ماجد البرهومي.

لم أكن أعرف عن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وأنا طفل في بداية ثمانينات القرن العشرين سوى أنه وزير الخارجية الذي كانت تعرض صوره في “شريط الأنباء” حين يستقبله الرئيس الحبيب بورقيبة من حين لآخر بمكتبه بقصر قرطاج. ثم اختفى هذا الوزير الوقور لسنوات معدودات وعاد للظهور في المشهد السياسي كرئيس لمجلس النواب في بداية التسعينات يسير تلك الجلسات الرتيبة التي تعنى بمناقشة ميزانية الدولة في شهر ديسمبر والتي تعرض ليلا على القناة الوطنية بطريقة مختصرة ومقتضبة، والتي بدا لي فيها الباجي غريبا عن ذلك الموقع الذي اعتدت على رجل الفكر محمود المسعدي يحتله لسنوات.

وعاد الباجي إلى الإختفاء من المشهد لسنوات طالت كثيرا هذه المرة عرفت خلالها الكثير عنه من خلال مطالعاتي وشغفي بتاريخ الحركة الوطنية وبمراحل بناء دولة الإستقلال. فعرفت أنه كان مستشارا للوزير الأكبر الحبيب بورقيبة مع بدايات الإستقلال ثم تم تكليفه بملف السياحة، فالإدارة العامة للأمن الوطني، ثم عينه رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة وزيرا للداخلية بعد وفاة الطيب المهيري، ونال أيضا حقيبة الدفاع.

وغادر الباجي قائد السبسي الحكومة طيلة عقد السبعينات وأصبح نائبا بالبرلمان ولم يكن يتفق كثيرا مع الوزير الأول المرحوم الهادي نويرة الذي طغت شخصيته على المشهد السياسي في ذلك الوقت. كما انسلخ من الحزب الدستوري مع حسيب بن عمار وأحمد المستيري وراضية الحداد وآخرين ممن أطلق عليهم البعض تسمية التيار الليبرالي الدستوري الذي أسس حركة الديمقراطيين الإشتراكيين  وله مساهمات فاعلة في المجتمع المدني وفي عالم الصحافة ترسيخا للديمقراطية.

ومن المفارقات أن الباجي قائد السبسي المحامي لم ينل طيلة مسيرته السياسية حقيبة العدل رغم نيله للحقائب السيادية الأخرى وآخرها وزارة الخارجية التي سمي على رأسها في عقد الثمانينات من القرن العشرين. لكن بالمقابل تم تكليفه مع بدايات حكم الرئيس بن علي بإنجاز تصور للمجلس الدستوري، وهو رجل القانون، وذلك بعد عودته من ألمانيا سنة 1987 والتي عين فيها سفيرا بطلب منه حين كان وزيرا للخارجية توقيا من مؤامرات القصر.

وخلال “الغيبة الكبرى” للباجي قائد السبسي التي امتدت لقرابة العقدين من الزمان، أي التسعينات والسنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة، لم أسمع عن الرئيس التونسي الراحل إلا في ثلاث مناسبات، الأولى كانت بمناسبة إجراء صديقي الصحفي الشاذلي بن رحومة لحوار معه ومما رسخ في ذهني منه أن الرئيس بورقيبة رحمه الله لم يكن يعرف قيمة القطع والأوراق المالية وماذا يمكن أن يشترى بها، والثانية بمناسبة مشاركة “البجبوج” في منتدى الدكتور عبد الجليل التميمي بمؤسسة التميمي للبحث العلمي و المعلومات، والثالثة كانت بمناسبة إصدار قائد السبسي لكتاب “بورقيبة الأهم والمهم. واعتقدت مثل أغلب التونسيين في ذلك الوقت أن الباجي قائد السبسي قد ولى زمانه وبات مكانه الطبيعي كتب التاريخ محفوظا في ذاكرة التونسيين كمحام بارع دافع عن معتقلي الحركة الوطنية خلال الفترة الإستعمارية وكرجل صاحب مسيرة هامة امتدت لعهدين ساهم خلالها بمعية آخرين في بناء دولة الإستقلال والحفاظ على مؤسساتها.

وفي هذا الإطار، وفي حديثه عن امتهانه للمحاماة يقول الباجي قائد السبسي في كتابه الحبيب بورقيبة الأهم والمهم “وما أن حللت بتونس في 15 جويلية 1952 حتى تلقاني بالأحضان فتحي زهير الذي كان يدير مكتب محاماة مهما جدا. لقد عرض علي فورا الإنضمام إلى مكتبه حيث كلفت أساسا بقضايا المناضلين المحالين على المحكمة العسكرية. في أوج معركة المقاومة إذن كانت انطلاقتي في مهنة المحاماة أمام المحاكم العسكرية الفرنسية التي كانت تعمل في ذلك الظرف بكامل طاقتها.

أديت القسم يوم 3 أكتوبر وانطلقت على الفور في الترافع و بعد أسابيع قليلة إثر اغتيال فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر اعتقل فتحي زهير بمعية زعماء آخرين. لقد كان فتحي زهير عضوا في مجلس الأربعين الذي شكله الملك يوم 1 أوت 1952 لاتخاذ قرار بشأن الإصلاحات التي اقترحها المقيم العام دي هوتكلوك وعمل جاهدا في اتجاه الرفض القاطع لخطة الإصلاح وأسهم في صياغة البراهين القانونية والسياسية المبررة لهذا الموقف. وفي 9 سبتمبر وجه الملك إلى المقيم العام رسالة رسمية لإبلاغه هذا الرفض. ومنذ ذلك الحين كان فتحي زهير يدرك أنه مستهدف من الشرطة. وقد اعتقل يوم 5 ديسمبر لدى خروجه من محكمة الوزارة. أما أنا فلم تكن لي التجربة الكافية في المهنة كي أتحمل مسؤولية إدارة واحد من أهم مكاتب المحاماة في تونس في أوج نشاطه. و لكن كبير الكتبة في المكتب الحبيب إدريس كان يؤازرني و يقدم لي مساعدة لا تقدر بثمن و كان زملائي من حولي يساندونني أيضا بحرارة”.

ولعل ما حصل لاحقا، وتحديدا بعد 14 جانفي 2011، لم يكن في الحسبان لدى غالبية التونسيين والعارفين بالشأن التونسي خارج الديار، والمتمثل في استنجاد الرئيس فؤاد المبزع بالباجي قائد السبسي لرئاسة الحكومة وإنقاذ البلاد من الفوضى التي كانت تتهددها. وخرج الباجي كالمارد من قمقمه أو كطائر الفينيق من تحت الرماد يتقد حيوية ونشاطا واستطاع في ظرف وجيز أن يرجع بعض الإستقرار إلى البلد وينظم انتخابات حرة ونزيهة للمجلس الوطني التأسيسي انتهت بتسليم السلطة بطريقة سلمية لمن لم يحافظ لاحقا على الأمانة.

كما حقق الباجي معجزة سياسية بكل ما للكلمة من معنى تمثلت في تأسيس حزب سياسي جديد من مكونات مختلفة ومشارب فكرية متعددة واستطاع هذا الحزب في ظرف وجيز أن يتصدر استطلاعات الرأي ويفوز لاحقا بالإنتخابات التشريعية. وتمكن “طائر الفينيق” من الوصول إلى قصر قرطاج رغم تصويت “حلفائه” الإسلاميين بكثافة منقطعة النظير لمنافسه المنصف المرزوقي ومهاجمة أنصارهم له بشراسة استثنائية أثناء الحملة الإنتخابية.

ويعتقد أن انصراف قائد السبسي إلى مهامه كرئيس للجمهورية ساهم في تفكك حركة نداء تونس، حيث كان الباجي داخل حزبه ذلك الرجل القوي الذي يجتمع حوله الجميع ويهابونه ويخشونه أيضا، وبابتعاده لم يستطع النداء أن يحافظ على وحدته. كما أن عدم جهوزية الحزب الفتي للحكم، وهو الذي باغته الفوز في الإنتخابات بتلك السرعة القياسية قبل أن يتمكن من بناء مؤسساته، ساهم في انحلاله بعد أن بات الكل يتصارع على كعكة الحكم دون معايير مضبوطة سلفا فعمت الخلافات وبرزت التصدعات.

كما أن مؤامرات من اعتقد الباجي أنهم حلفاؤه، والذين رغبوا في تفكيك النداء من الداخل وهو الحزب طري العود الذي تشكل لتوه، ساهم في انحلال هذا الحركة رغم فوزها الهام واللافت في انتخابات سنة 2014. ناهيك عن سهولة اختراق النداء من قبل “خصمه الحليف” وذلك من خلال قيادات تشترى ذممها بأبخس الأثمان وتفعل كل ما يمكن فعله لاستمرار بقائها في الحكم شعارها في ذلك “الغاية تبرر الوسيلة”.

ويؤكد عديد المقربين بأن الباجي قائد السبسي قضى أيامه الأخيرة محبطا منكسرا مهزوما من غدر الأقربين الذين لم يراعوا سنه ولا أفضاله عليهم ولا تاريخه الحافل وهو الذي رافق الأمين العام للأمم المتحدة داغ هامرشولد لزيارة مدينة بنزرت للإطلاع على حجم الدمار بعد معركة الجلاء، وهو الذي قاد المساعي التونسية لاستصدار قرار أممي من مجلس الأمن يدين الكيان الصهيوني على اعتدائه على حمام الشط دون أن تستعمل الولايات المتحدة حق النقض واكتفت بالإمتناع عن التصويت. فمن المؤسف حقا أن ينتهي بتلك الطريقة محشورا في الزاوية وتحوم الشكوك حول أسباب وفاته في ظرف صعب وعصيب عاشته تونس رفض فيه الباجي الإمضاء على مشاريع قوانين أراد البعض تمريرها لإقصاء الخصوم من الإستحقاق الإنتخابي الذي كان على الأبواب.

ولعل الجنازة المهيبة التي نظمت لطائر الفينيق، والتي تليق بمسيرته السياسية وبسيرته الذاتية المتنوعة والتي لا يبدو وأن هناك سياسيا في هذا العالم لديه مثيلا لها، بما في ذلك الزعيم الحبيب بورقيبة، تعيد له ولو بعضا من اعتباره، خاصة وقد شاءت الصدف أن يمر موكبه بجانب تمثال الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي أعاده الباجي نفسه إلى مكانه الطبيعي. وفي هذا الإطار يقول الرئيس التونسي الراحل في كتابه بورقيبة الأهم والمهم”عندما يفعل الزمن فعله، وعندما ينقّى البرّ من الزؤان ويفرز الغث من السمين، و يحل التاريخ محل راهن الأحداث، سوف يخرج الحبيب بورقيبة من جحيمه و يعود تمثال الفارس التونسي الأكثر مجدا ليتبوأ مكانه في تونس، في شارع الحبيب بورقيبة، قبالة تمثال عبد الرحمان بن خلدون، عالم الإجتماع التونسي الألمع عبر كل العصور”.

لقد رحل الباجي قائد السبسي وبقيت صور خطبه وحواراته ونشاطاته السياسية عالقة في الأذهان لأنه، رغم كل أخطائه، رجل استثنائي نحت مسيرة سياسية استثنائية. فأتذكر جيدا، وعلى سبيل المثال،  قوة الشباب التي بدت عليه في الإجتماع الجماهيري الذي انتظم بمعرض صفاقس الدولي قبل انتخابات 2014، إضافة إلى الحضور الذهني والقدرة على الخطابة والإرتجال، فقد شاءت الأقدار أن كنت حاضرا قريبا من المنصة أتابع حركات وسكنات الرئيس المفترض في ذلك الوقت وقدراته الإستثنائية التي كانت تمثل معجزة لمن هم في مثل سنه، حتى أن قياديا في النداء صار وزيرا في حكومة الحبيب الصيد الأولى سألني عن رأيي فقلت له بأن الباجي هو رئيس تونس القادم، لقد حسمها بورقيبة مع بن يوسف في صفاقس وسقط بن علي يوم 13 جانفي 2011 يوم تحركت صفاقس، وحسمها الباجي اليوم أيضا في صفاقس خاصة مع الكم الهائل من رجال الأعمال الذين تقاطروا عليه في مقر إقامته يعلنون الولاء.

وأتذكر جيدا ذلك الدهاء الذي وظفه في قصر هلال، وصادف أن كنت متواجدا أيضا، لاستقطاب تعاطف البورقيبيين من خلال ارتداء نظارات شبيهة بنظارات الزعيم الحبيب بورقيبة واستناده على عصا أسوة بالزعيم الراحل أيضا وهو ما قربه أكثر من قلوب الدساترة والبورقيبيين. وأتذكر جيدا صرخته بأن الدساترة “ملاكة” في هذا البلد وهي صرخة أخرجت بعض من يزايدون عليه اليوم من جحورهم وأرجعتهم إلى المشهد السياسي.

أتذكر جيدا أيضا لباقته وأخلاقه العالية ومعاملاته الراقية مع الصحفيين والإعلاميين العرب والأجانب الذين التقيته معهم وكيف كان حريصا أمامهم على صورة وسمعة تونس متجنبا الحديث قدر المستطاع عن مشاكل البلاد الداخلية وعن خلافاته مع حركة النهضة في وقت ما. فيشعر المرء فعلا أنه أمام رجل دولة مسؤول رغم تقدمه في السن ورغم ابتعاده عن الساحة السياسية لقرابة العقدين من الزمان اعتقد خلالها الجميع أنه ذهب إلى غير رجعة.

ولعل موقف الباجي قائد السبسي من الخلاف اليوسفي البورقيبي يؤكد على أن الرئيس التونسي الراحل دستوري أصيل متصالح مع ذاته ومع شقي العائلة الدستورية وحقق عدالته الإنتقالية الخاصة في هذا الملف وهو البورقيبي قلبا وقالبا. فقد جاء في كتابه الحبيب بورقيبة المهم والأهم ما يلي:”من المفارقات الغريبة أنني دعيت يوما من قبل مناضلي شعبة المرسى لتلاوة الفاتحة على ضريح المرحوم الطيب المهيري بمناسبة ذكرى وفاته يوم 29 جوان بالمربع المخصص لزعماء الكفاح بمقبرة الجلاز بتونس، ففوجئت بمشاهدة قبر صالح بن يوسف بنفس المكان ملاصقا لقبر الطيب المهيري والمنجي سليم وأحمد التليلي ويوسف الرويسي والصادق المقدم فهزني هذا المشهد هزا و تذكرت قول أبي العلاء في قصيده الشهير:

رب لحد قد صار لحدا مرارا       ضاحكا من تزاحم الأضداد

و دفين على بقايا دفـــــــــين       في طويل الأزمان و الآبـاد

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقاوموا معا الإستعمار الغاشم وعرفوا معا السجون والمنافي، ولما اقتربت ساعة النصر تفرق جمعهم وحلت الفتنة والتشاجر محل التآزر والوئام ولم يجمع بينهم إلا الموت. رحمهم الله جميعا وكفى المؤمنين شر القتال”.

رحم الله الباجي قائد السبسي ورزقه فراديس جنانه، ورحم الله الزعيم والأب المؤسس الحبيب بورقيبة وطيب ثراه، ورحم الله الزعيم الخالد صالح بن يوسف وكل زعماء الحركة الوطنية وبناة دولة الإستقلال ومن حافظوا عليها وحموها لاحقا من الإنقلابات والإستهداف والتدمير وعلى رأسهم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. وحفظ الله تونس من كل مكروه في هذا الظرف العصيب والإستثنائي الذي تمر به في واحدة من أحلك فترات تاريخها المعاصر إن لم تكن أحلكها على الإطلاق.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP