الباجي قايد السبسي: في الذكرى الثالثة لوفاته .. رحيل آخر “السياسيين التقليديين”
منذر بالضيافي
تمر اليوم، الذكرى الثالثة على رحيل الرئيس الباجي قايد السبسي أول رئيس منتخب بانتخاب حر ومباشر في تاريخ الجمهورية التونسية، رحل “البجبوج” كما يحلو للتونسيين مناداته في الذكرى 62 لاعلان الجمهورية ( 25 جويلية 2019) ، رحيله كان – وما يزال – محل اهتمام تونسي ودولي، وهو ما برز من خلال تواصل اهتمام وسائل الاعلام العربية والدولية بإرث الرجل السياسي، في علاقة بمتابعة تطورات الشأن السياسي التونسي.
كما ما زال العديد من التونسيين يستحضرون الرجل، حتى الذين اختلفوا معه أو حملوه لاحقا المسؤولية عن تعطل المسار، وبرز هذا الاهتمام الشعبي، خاصة من خلال الجنازة التاريخية التي أقيمت له، وحضرها عدد من زعماء العالم وعرفت مواكبة شعبية لا مثيل لها، جنازة واكبها عدد من زعماء العالم فضلا عن حضور شعبي لافت، عبر من خلاله التونسيين عن تقديرهم للرجل، وتناسوا لحظتها اختلافهم حوله.
ودع التونسيون في جويلية 2019 محمد الباجي قايد السبسي، وهو أول رئيس للبلاد ينتخب ديمقراطيا، السياسي المخضرم، الذي أكسبته مسيرته السياسية الطويلة الكثير من الخبرة والتجربة. وينظر له من عملوا بجانبه كسياسي يمتاز بـ”الذكاء السياسي الحاد والبراغماتية الاستثنائية”.
وعرف أيضا بمواقفه المتقدمة في حماية الدولة والثورة بعد ثورة 14 جانفي 2011 لما عاد بعد عشريتين من التقاعد السياسي ليكون على موعد مع سياق مجتمعي وسياسي مستجد وهو المحسوب على النظام القديم الذي قامت عليه الثورة، ليكسب الرهان ويتحول الى “أب الانتقال الديمقراطي” في تونس.
شغل الرئيس التونسي الراحل محمد الباجي قايد السبسي عدة مناصب في الدولة، وهو سياسي مخضرم عايش أكثر من جيل في حياته كسياسي ورجل دولة. ويعد أول رئيس انتخب ديمقراطيا في 2014 عقب ثلاث سنوات على الثورة.
ولد السبسي لعائلة تونسية في 29 نوفمبر 1926 في “سيدي بوسعيد” الضاحية الشمالية للعاصمة تونس، وتابع تعليمه العالي بكلية الحقوق بباريس في فرنسا قبل أن يمتهن المحاماة.
السياسي “الذكي والبراغماتي“
عاد إلى السياسية بعيد الثورة التي أطاحت في 14 جانفي 2011 بنظام بن علي، إذ عينه الرئيس الانتقالي فؤاد المبزع رئيسا للحكومة في 27 مارس من العام نفسه في مستهل مرحلة الانتقال ديمقراطي.
ويعد من السياسيين التونسيين الذين عرفوا بـ ”الذكاء السياسي الحاد والبراغماتية الاستثنائية” كما يقول أحد المقربين منه عمل إلى جانبه لفترات طويلة.
عاد الباجي قائد السبسي، بعد عشريتين من “التقاعد السياسي”، ليتصدر المشهد الوطني من جديد، من خلال قيادة تجربة انتقال سياسي نحو الديمقراطية، عاد “السياسي المخضرم”، الذي عاش كل مراحل تاريخ تونس الحديث، من التحرر الوطني، إلى بناء الدولة الحديثة، الى ثورة الحرية والكرامة، في 14 جانفي 2011.
عاد “الشيخ التسعيني” في مرحلة وصفت بكونها “فارقة”، ضمن سياق ما يعرف ب “الحالة الثورية”، تمت الاستعانة بخبرته وبمعرفته بالمجتمع والدولة و “بشرعيته الوطنية” و “قابلية” قطاع واسع من التونسيين للإرث التحديثي للزعيم الحبيب بورقيبة، الذي يعد العائد من بعيد من أبرز ممثليه.
كل هذه العناصر مجتمعة، فضلا عن تقدمه في السن، بما يجعل منه زاهدا في الاستمرار في الحكم، وفق ما تصور “من هندس لهذه العودة”، وهو ما كذبته الأحداث، حيث افتتحت شهية “الشيخ” على الحكم ليستمر أكثر مما خطط له.
عاد الرجل، الذي قالها صراحة: “أن السياسي لا يتقاعد”، لإدارة مرحلة انتقالية استثنائية، في موقع وزير أول، ليحقق حلم حرمه منه “أستاذه” بورقيبة فهو ليس من يستكمل الشروط الواجب توفرها، وعلى رأسها أن يكون “مستيري”، ليكون “صاحب القصبة”..
أخيرا شاءت الأقدار أن يجلس على كرسي الحكم بالقصبة كوزير أول بصلاحيات رئيس حكومة، طلب منه إعداد البلاد لاستحقاق انتخابي، تكون مهمته التأسيس للجمهورية الثانية، مثلما أراد ذلك شباب الثورة في اعتصامي القصبة 1 والقصبة 2، الذين رأوا في استمرار محمد الغنوشي الوزير الأول زمن حكم بن علي، خيانة للثورة بل سرقة لها، وهو الشعار الذي رفعه المعتصمون أمام قصر الحكومة، فكان لهم ما أرادوا، ومهدوا بل عبدوا الطريق لعودة البورقيبية التي أنقلب عليها منذ أكثر من ربع قرن.
قايد السبسي .. رجل دولة
يمتلك الباجي قائد السبسي خبرة سياسية واسعة، مكنته من نيل منصب رئيس حكومة انتقالي في 2011 في فترة حساسة تمر بها البلاد آنذاك. وتمكن من الوصول بها إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، التي فازت بها “حركة النهضة” الإسلامية.
أسس الباجي حزب “نداء تونس” في 2012 ودخل به الانتخابات على قاعدة مناهضة الإسلاميين. وتمكن من الفوز بغالبية مقاعد البرلمان آنذاك وبرئاسة الجمهورية، وأعلن في وقت لاحق دخوله في تحالف وتوافق سياسي مع النهضة على الحكم.
وضم هذا الحزب يساريين ونقابيين وأيضا منتمين سابقين لحزب “التجمع” الحاكم في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، والذي تم حله بقرار قضائي بعد الثورة.
وأصبح قائد السبسي أول رئيس لتونس منتخب ديمقراطيا، بعد فوزه في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التي أجريت في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، على منافسه الرئيس المنتهية ولايته محمد المنصف المرزوقي. وقد حصل حينذاك على نسبة 55,68 بالمئة من الأصوات مقابل 44,32 بالمئة للمرزوقي.
وجهت له في السنوات الأخيرة من عهدته الانتخابية انتقادات حول فترة حكمه و اتهامات خاصة محاولته “توريث” السلطة لنجله، ولكنه كثيرا ما كان ينفي ذلك.
واصل الباجي العمل على قاعدة التوافق السياسي مع حزب النهضة إلى حدود خريف 2018، ليعلن في موقف هز المشهد السياسي “نهاية التوافق”، لا بسبب رفض الحزب الإسلامي تغيير رئيس الحكومة انذاك يوسف الشاهد، على عكس رغبة الباجي، بل بعد تقييم لتجربة “توافق” لم تكن موفقة، واعتبرها الراحل قبل وفاته “مراهنة خاسرة”، اذ راهن الرجل على “ادماج” التيار الاسلامي، لكن تبين له أن “الجماعة” كانت ما تزال لم تنجز بعد الشروط الضرورية لهذا “الادماج”، وهو ما كان سيعلنه بوضوح، لكن شاءت الأقدار عكس ذلك.
يعد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، آخر “السياسيين التقليديين”، لا في تونس فقط بل في العالم، فمثلما انتهي زمن “المثقف القطب” (العلامة الجامع) لصالح “المثقف الخبير” (المرتبط بالنجاعة وبثقافة السوق)، فان السياسي “الزعيم” في طريقه للانقراض.
بعد ثلاثة سنوات، من رحيل الرئيس السبسي، دخلت تونس زمن سياسي جديد، ما تزال ملامحه وآفاقه يكتنفها الغموض، و بادارة وأسلوب حكم، مختلفة عن أسلوب ومنهجية الرئيس الراحل.
أما في العالم، الذي يعيش نسق تحولات سريعة، ذاهبة الى اعادة تشكيله من جديد، فقد انتهت “الزعامة” التقليدية، كما تشكلت في مخيال جيلي والأجيال التي سبقتني، لصالح ما أصبح يطلق عليه بالإدارة السياسية، وهي في الواقع أقرب الى تصريف للشأن السياسي.
اذ ترك “السياسي المحترف” مكانه “للسياسي الموظف”، الذي تشاركه في الادارة والتسيير والاختيارات والسياسات “جهات” و ”مراكز نفوذ” و ”زمر ضغط”، يتحول معها “الرئيس” أو “الحاكم”، الى مجرد “عون تنفيذ”.
Comments