الجديد

الباجي قايد السبسي و القذافي .. الكره المتبادل

غازي معلى

المرحوم الرئيس الباجي قايد السبسي، الذي تمر اليوم الذكرى الثانية لوفاته، ذلك الرجل الذي امضى 12 سنة في وزارة الداخلية، منذ السنوات الاولى للاستقلال، ثم سنوات طويلة في الخارجية، في سنوات صعبة و مثقلة بالأحداث الاقليمية و الدولية، كان يعرف جيدا و يعي اهمية ليبيا و دورها الايجابي و السلبي، سواء في استقرار تونس من عدمه، و الأهم الدور المحوري للقائد معمر القذافي في ذلك سلبا و ايجابا.

و خصص الرئيس الراحل، في كتابه الصادر سنة 2009 (و هو من السياسيين العرب القلائل الذي صدر له كتاب و هو خارج السلطة ) ” الحبيب بورقيبة الاهم و المهم”) ، جزءا أو حيزا مهما، عن علاقته مع ليبيا و القائد القذافي، سنوات 84/85 و ما شهدته من تشنج في العلاقات التونسية الليبية.

كما لمح للكره الدفين لمعمر القذافي للحبيب بورقيبة، و اشار الى ان العقيد “لا يستلطف الباجي البتة”، و كيف انه في احد اللقاءات بين الرجلين في خيمة القذافي في طرابلس، سلم هذا الاخير على الباجي بإصبعين فقط.

هذا الكتاب صدر كما قلنا في 2009 اي سنتين او اقل قبل ثورات “الربيع العربي”، التي انطلقت من تونس، على بعد كيلومترات من طرابلس/ القذافي، وهو “ربيع” كان قد   بشر به “سي الباجي” رحمه الله بين سطور كتابه، و كأن هذا الكتاب، أراد صاحبه أن يكون مرجعيته في ادارة الازمة الليبية في 2011 ، و انعكاساتها المتشعبة على الثورة التونسية الناشئة.

حينها وعن معرفة دقيقة بنوايا “العقيد”، استشعر الباجي و بسرعة فائقة الخطر الذي يمثله النظام الليبي القائم، على مستقبل الانتقال الديموقراطي التونسي، اذا ما بقي القذافي و جماعته في الحكم، و الخطر الذي ممكن ان يكونوه امنيا و عسكريا و اقتصاديا على تونس.

لكن الرجل، وهو السياسي المخضرم، لم يتهور بإعلان اعترافه بالمجلس الانتقالي الليبي، المتكون في مارس2011 في بنغازي، و الذي كانت فرنسا اول المعترفين به.

كانت سياسة الباجي في فترة حكمه الاولى، كوزير أول بداية من مارس  الى أكتوبر 2011 (تسعة أشهر )،  فيها دهاء سياسي و دبلوماسي منقطع النظير، ففي تلك الفترة توافد على تونس اكثر من مليون و نصف مواطن ليبي،  فروا بحثا عن مكان آمن لهم و لعائلتهم، و كان بينهم من هو فار من اضطهاد العقيد، و من هو هارب خوفا من سطوة الثوار و انتقامهم.

فقد عاش الليبيون، في تلك الفترة ثوارا و ازلاما، في جو فريد من نوعه، فكل ينشط و يحشد و يجهز من تونس، لمحاربة خصمه على الاراضي الليبية، فسالت الدماء و ازهقت الارواح، و لكن لم نسمع بضربة كف وحيدة بين ليبي و اخر على أرض تونس، ولها علاقة بالصراع السياسي العسكري المشتعل حينها في ليبيا.

صحيح ان الباجي قايد السبسي، كانت لديه قناعة راسخة ان القذافي لو يبقى في الحكم ستكون اولى اولوياته اسقاط النظام الجديد في تونس، او ضم تونس الى ليبيا كما كان يفكر في اواخر السبعينات و اوائل الثمانينات، و لذلك عمل الباجي على تسهيل الثورة الليلة، و دعمها بكل الطرق المتاحة و الممكنة، و التي كانت تسمح بها  وتوفرها اليات الحكم في ذلك الزمن، والتي سمحت  بالتسريع بسقوط نظام معمر القذافي.

هذا النظام، الذي كان يتربص حينها بتونس، كما كان طوال سنوات حكم بورقيبة و لأن الباجي يعرف جيدا ان القذافي لن يغفر للشعب التونسي اسقاط صديقه زين العابدين بن على، و لا ننسى أن “سي الباجي” كان من معاصري احداث جربة 1972 و قصة الوحدة، التي لم تدم الا ساعات او ايام .

في ذلك السياق، صدم بورقيبة باسم زين العابدين بن على في قائمة حكومة الوحدة المقترحة، التي عرضت عليه فلما سال بورقيبة الطاهر بلخوجة وزير الداخلية حينها ” من يكون بن علي هذا و من اقترحه “؟، اجاب بلخوجةً انه مدبر الامن العسكري و قد اقترحه القذافي لمنصب وزير المخابرات في حكومة الوحدة، فأمر بورقيبة بسجنه و لكن فشل مشروع الوحدة بعد ساعات، جعل بن علي خارج السجن.

و هذه الحادثة دليل قوي و متين على قوة “العلاقة الغريبة”، بين بن علي و القذافي منذ اوائل سبعينات القرن الماضي، و كيف تطورت بعد 1987 بعد وصول الجنرال بن علي لقصر قرطاج.

كما لم ينسى الباجي قايد السبسي أيضا عملية اخراجه من مجلس نواب الشعب سنة 1991 و الايادي الخبيثة لمعمر القذافي ورائها.

كل هذا و غيره جعل المرحوم الرئيس الباجي قايد السبسي، يفتح خط هاتفه المباشر صباحا مساءا و يوم الاحد لقيادة الثورة الليبية في بنغازي، و قدم لهم كل المساعدات حتى ان مسؤول الترتيبات الامنية في المجلس الانتقالي، في تلك الفترة عبد الكريم بازاما لا يتردد في مكالمة “سي الباجي” يوم الاحد السادسة، صباحا لطلب الترخيص لأول طائرة تحمل جرحى الثورة الليبية، من بنغازي لتونس العاصمة، و كان رد “سي الباجي” فوري و ايجابي.

ودون تردد تعامل الباجي قايد السبسي، مع الثورة الليبية، بعقلية المنتصر والداعم لها، و كذلك كرجل الدولة كان بصدد حماية الأمن القومي لبلاده، المهددة من استمرار نظام القذافي، فكان دعمه للثوار في جبل نفوسة و تقديم المساعدات لهم، هدفه أيضا – وفي المقام الأول –  غايته صد تقدم مليشيات معمر القذافي نحو الاراضي التونسية.

و لعل عملية ادخال السلاح عبر ميناء جرجيس، التي كانت بطلب دولي ، كانت أيضا ووفق رؤية الرئيس الراحل تصب في حماية أمن تونس من كتائب معمر القذافي، التي كانت تستعد لاخماد ثورة تونس، بمتابعة من معمر القذافي نفسه.

و كان الباجي يتابع عن كثب هذه التحركات، و يراقب عن قرب بعض المندسين، الذي يشتغلون لحساب معمر و نظامه لاسقاط الثورة التونسية، وقد أدار المعركة بكل ذكاء، فحتى لما قدم مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي الى تونس في شهر جوان 2011 و استقبله الباجي بوصفه الوزير الأول لم يطلب عبد الجليل الاعتراف به و لم يعلن الباجي عن ذلك.

و لكن الاستقبال في حد ذاته في تلك الظروف يرتقي الى مرتبة الاعتراف، و بالتالي لم يحرج عبد الجليل و لم ينطق الباجي بكلمة ممكن تكون ردة فعل معمر القذاقى عليها وخيمة على تونس، و هذه هي حنكة ادارة الصراع، و حتى غياب الباجي عن الزيارة التاريخية لساركوزي و ديفيد كامرون لطرابلس في 15/9/2011 بعد سقوط نظام معمر، فيها دهاء حتى لا يسجل التاريخ، و لا يبقى في مخيلة الشعوب ان رئيس تونس دخل ليبيا ” كمحرر” او ” غازي ” في يوم ما .

انتقلت ليبيا من نظام جماهيري الى نظام فيه انتخابات و برلمان، و لكن كذلك الى مليشيات و حروب اهلية، تخفت حينا و تشتعل حينا اخر، و انتقل الباجي من وزير أول حكومة الثورة، الى زعيم حزب “نداء تونس” الذي قاد المعارضة، و الذي استطاع ايقاف تغول الاسلامين في السلطة، انتقل الى اول رئيس لجمهورية تونس الثانية.

وصل الباجي قايد السبسي لسدة الحكم، رئيسا منتخبا مباشرة من الشعب، بطريقة شفافة و ديمقراطية،  و عند دخوله قصر  قرطاج تغيرت ليبيا و تغيرت تونس، و تغيرت المعادلات الاقليمية والدولية، لكن بقي الباجي متيقنا من اهمية ليبيا و دورها في استقرار تونس، امنيا و اقتصاديا.

فبعد شهر واحد من دخوله قصر قرطاج كان لي اول لقاء مباشر و مطول معه حول التطورات في ليبيا، كل ما اذكره اني ذهبت بخرائطي و ملحوظاتي و تقديرات للوضع، و كنت اشرح له التقسيمات و التدخلات الاجنبية و التمركزات و الصراعات المالية، وكان الباجي يبحث عن الحقيقة و بين الجملة و الجملة و يلمح لي بطريقة ذكية و غير مباشرة.

و تكررت اللقاءات و المواعيد مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، فالرجل كان يستشير و لا يتسرع و يستقبل كل من ننصح بلقائه من قيادات ليبية بدون بروباغندا و لا كثرة كلام و لا اعلام، و كنت دائما اقول له الجميع يحبك و يقدرك في ليبيا و يتمنى ان تقوم بدور الاب الراعي للحوار بين الفرقاء الليبيين.

و لكن كان هاجسه رحمه الله شيآن: اولا كان يعتقد ان شقا من الليبيين المحسوبين على العقيد القذافي، لن يغفروا له وقوفه ضد معمر، و كان مقتنعا ان الجزائر و مصر لن يتركوه يتقدم بحل بمفرده وسيعرقلونه، كل من ناحيته و بطريقته و هو محق لان لا الجزائر و لا مصر يردان حل لليبيا لا يكونون مشاركين فيه، من أجل تأمين مصالحها، لذلك لما تبلورت فكرة المبادرة في ذهن الباجي دعي الى ان تكون تونسية ومصرية وجزائرية (دول الجوار).

و رغم انه كان يعلم علم اليقين، ان مصر و الجزائر لن يتفقا على اي مشروع لحل الازمة في ليبيا، الا انه سعى و حاول و لكن الارادة الاقليمية كانت اقوى من الارادة التونسية.

ولما كان “سي الباجي” في الاصل محامي ثم رجل امن و بعدها دبلوماسي، وكان خبير بطبيعة الشعب الليبي، و اكتشفها منذ الخمسينات، و كانت لديه قناعة ان الشعب الليبي بطبيعته لا يقبل مبدا الحوار بسهولة، و لا تقاسم السلطة و الثروة ، فكان دائما يبحث عن حل خارج الصندوق، و بعيدا عن مسارات الامم المتحدة، التي لم تأتي اكلها.

فكان دائما يقول فلنتفق على الاسماء التي ستدير المرحلة ثم الالية لإيصال هذه الاسماء، و في لقاء جمعني به عندما طلب مني قبلها بأيام تجهيز تصور لحوار و منها حل، و كان ذلك بعد حوار الصخيرات، قدمت له تصورا كيف نصل الى حل و كيف نجمع الفرقاء، و بعد 20 دقيقة من الشرح سألني و من سيكون الرئيس و رئيس حكومة و رئيس البرلمان، اجبت المتحاورون يختارون.

فكانت اجابته اذهب ابحث لي عن ثلاثي ممكن يقبل به الليبيون، و بعدها نضع خطة حوار تنتج الثلاثي المقترح، و كان محقا في هذا و اثبتت الايام و السنوات ان هذه الطريقة المثلى لإدارة الازمة في ليبيا، و لما سالته سيدي اتحدث الى الليبين بهذا الموضوع، و لتباحث معهم في هذا السياق فأي صفة لي فانا لا امثل احدا فأجابني بكل سرعة اذا ما سألوك اجبهم و بدون تردد ” انا صديق الباجي” .

و كم كانت هذه الصفة سحرية و مفيدة لتونس اكثر مليون مرة من صفة مستشار او دبلوماسي، و في سياق البحث عن الشخصيات التي يبحث عنها الباجي، جاء في شهر مارس 2017و تحديدا يوم 1 مارس على الساحة 11 صباحا لقاء جمعني بالباجي و عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة الحالي، فلما اقترحت على “سي الباجي” لقائه و قدمت لمحة له عن الشخص، قال لما لا فممكن ان يكون هو الحل و التقينا لمدة ساعة، تحدث فيها الباجي عن ليبيا و كانه ليبي ابن ليبي، و دارس لتاريخها.

و لكن قبل المغادرة بدقائق نظر الباجي لعبد الحميد الدبيبة و قال له ” ردو بالكم تدخلو الروس ليبيا ( حينها لم يحل ركبهم بعد ) فاذا دخلوا الى ليبيا فكل المنطقة ستشتعل و ممكن تتحول ليبيا الى سوريا جديدة “.

و فعلا بعد سنتين اشتعلت حرب في ليبيا، كان اهم ادواتها المرتزقة الفاقنر و الخبراء العسكريون الروس، و الان القواعد العسكرية اللليية في الشرق، هي تحت سيطرة جيش موسكو، و الله اعلم ماذا ممكن يحدث بعد اشهر او سنوات.

هذا هو الباجي قايد السبسي، القارئ الجيد لتوازنات المنطقة و العالم و الفاهم للمعادلة الدولية، و لكن “سي الباجي” ايضا رجل دولة، و مصلحةً تونس بالنسبة اليه اكبر من الاشخاص و الظروف و الصرعات.

أريد أن أختم قصة الباجي قايد السبسي  مع ليبيا و لو اننا قصرنا عندما اختصرنا على جوانب قليلة من عمق العلاقة الا ان ما حدث في شهر ماي 2019 اسابيع قبل رحيل الباجي امر يدرس في الجامعات حينها كانت الازمة بين “سي الباجي” و رئيس الحكومة يوسف الشاهد قد وصلت الى حدها الاقصى.

و كانت الدولة تمر بأزمة مالية كبيرة و البنك المركزي التونسي يحتاج مليار دولار لإنقاذ بقية السنة، و الدولة من شبح انهيار الدينار، و بمبادرة فردية من محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي، طلب من نظيره الليبي وديعة بمليار دولار، و بسرعة تلكأ المحافظ الليبي صديق الكبير، فطلب مني المحافظ المساعدة و قمت بالضغط على رئيس الحكومة فائز السراج، حتى يعطي تعليماته بإعطاء الوديعة.

حينها كانت طرابلس شبه محاصرة من قبل مليشيلىات حفتر و المرتزقة التابعة له، و كان السراج يبحث عن متنفس دبلوماسي، فطلب لقاء مع “سي الباجي” كهدية لتسريحه الوديعة.

اتصلت بالرئيس و شرحت له الامر فلم  يتردد و كان اللقاء يوم 22ماي 2019 في قرطاج و وقع السراج امر الوديعة في طائرة العودة و كانت الكلمة السحرية التي قالها الباجي للسراج ” تونس هذي بلادك ما تخليهاش”،  ووصلت الوديعة و انقذ الدينار و الاقتصاد حينها، و لم يعلم يوسف الشاهد بالوديعة، دون تفاصيلها الا بعد ستة اشهر، و كان الباجي قد انتقل الى جوار ربه، رحم الله “البجبوج”.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP