التحوير الحكومي .. ماذا بعد “تصحيح المسار” ؟
منذر بالضيافي
مثلما كان متوقعا، فقد اقدم رئيس الحكومة هشام المشيشي، على ادخال تعديل كبير وهام على فريقه الحكومي، وذلك بعد ثلاثة أشهر من وصوله لقصر القصبة، ومن الاشراف على حكومة لا يدين له ثلثها ب “الولاء”، وبالتالي فان الملاحظة الأولى والبارزة، تتمثل في ما يمكن أن نسميه ب “ثأر” المشيشي للظروف والملابسات التي صاحبت تكوين فريقه، والتي لم يكن له فيها حينها “سلطة القرار”، بقدر ما تم فرضها من قصر قرطاج، فضلا عن المحاولات “المهينة” التي تعرض لها، وبشكا علني من قبل من أعطاه خطاب التكليف (الرئيس قيس سعيد)، في مسعى واضح كان الهدف منه جعله مجرد وزير أول لا رئيس حكومة بكامل الصلاحيات، وهو ما لم يستسغه الرجل وجعله يبحث عن “الخلاص” عند خصوم الرئيس سعيد، ونعني هنا الأحزاب والكتل البرلمانية الرئيسية، ممثلة في “حركة النهضة” و “قلب تونس” اساسا.
وبالتالي فان التحوير الوزاري الذي تم الاعلان عنه أمس السبت، لا يمكن فصله عن سياقه السياسي، المتسم بتصاعد الصراع بين كل من رئيس الحكومة وحزامه السياسي والبرلماني من جهة ورئيس الجمهورية والمعارضة الموالية له ( الكتلة الديمقراطية، المكونة من “التيار الديمقراطي” و “حركة الشعب”).
كما لا يمكن أيضا اهمال ما أطلقنا عليه في بداية هذه الورقة، من الرغبة الجامحة في “الثأر” من قرطاج، عبر الاحتكام لمقتضيات الدستور في تشكيل الحكومة، ما يجعل ما حصل يرتقي الى اعلان من قبل المشيشي لنفسه “سيدا” – دون منازع – لقصر القصبة، أي رئيسا للحكومة بكامل الصلاحيات التي منحها له دستور 2014، وبالتالي فان التحوير الأخير يعد بمثابة “تصحيح للمسار” القانوني والدستوري الذي غاب في لحظة الاعلان الأولى.
و من هنا فان الرجل (المشيشي)، اراد أن يكون التحوير الأول على حكومته، بمثابة ولادة جديدة لحكومته، من جهة “الهيكلة” وهو الذي شمل ثلث الفريق الحكومي، واحداث وزارة جديدة ( التشغيل والاقتصاد التضامني) وحذف وزارة وكتابة دولة (وزارة العلاقة بالهياكل الدستورية وكتابة الدولة للمالية) ، والمهم لعله يكمن في اعطاء “هوية جديدة” لحكومته، فهي اليوم أقرب الى “حكومة سياسية” منها الى “حكومة كفاءات”، على اعتبار وأن الجميع يدرك ارتباط عدد من الوزراء الجدد، بأحزاب وحساسيات سياسية، محسوبة على احزاب وكتل الحزام السياسي والبرلماني للحكومة.
حرص المشيشي أيضا، على أن يكون له نصيب الأسد في تركيبة الحكومة، وأن يكون متحكما في مفاصلها وسلطة القرار الأساسية فيها، من خلال تعيينه لوزراء من “أصدقائه” و “حاشيته”، في مواقع هامة وسيادية مثل “الداخلية” و “العدل”، في رسالة على علاقة بقطع “الهيمنة” لا مع قصر قرطاج فقط (الذي فقد وزرائه)، بل مع “الحزام السياسي” الداعم له، وذلك بالنظر الى أهمية حقيبتي العدل والداخلية، في ادارة الشأن العام في البلاد، وهي حقيقة أصبح يدركها جيدا هشام المشيشي، وهو الوافد الجديد على الحقل السياسي، لكن “خبرته” و “معارفه” الادارية كافية لتجعله على بينة من المكانة المحورية لحقيبة الداخلية في الحياة السياسية في بلادنا، وهو الذي خبر الوزارة من الداخل خلال فترة توليه حقيبة الداخلية في حكومة الياس الفخفاخ، ولعل ذلك ما جعله لا يتردد في اقالة وزير الداخلية (المحسوب على قيس سعيد)، وتنصيب نفسه وزيرا بالنيابة على البناية الرمادية، المنتصبة بشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة تونس، وهو أمر حصل للمرة الثالثة في تاريخ تونس الحديث مع كل من محمد مزالي وزين العابدين بن علي.
تزامن التحوير الحكومي مساء أمس السبت، وساعات قليلة بعد الاعلان عنه من قبل هشام المشيشي، مع تصاعد “حراك احتجاجي” ليلي، تمثل في خروج بعض “الشباب المحتج”، في عدد من جهات البلاد في تجاوز لحظر الجولان والحجر الصحي الشامل، عرف حصول أعمال تخريبية شملت ممتلكات عامة وخاصة، ودون الانزلاق نحو التفسير “المؤامراتي” لما حصل ليلة البارحة، والذي سبق له أن حصل خلال السنوات الفارطة، بل يكاد يتحول الى “تقليد احتجاجي” موسمي مع كل شهر جانفي من كل سنة، فانه يمثل “رسالة” مضمونة الوصول لهشام المشيشي ولحزامه السياسي والبرلماني، عما ينتظر الائتلاف الحكومي بقيادة المشيشي، من صعوبات وتحديات “تنآي السماوات والأرض عن حملها”، وهذا ليس من باب المبالغة في شيء، بل هو ومن خلال رصد علمي وموضوعي للواقع كما هو.
وبالتالي، فان المشيشي وبعد أن استقر له الأمر وأصبح “سيد القصبة” وتخلص نهائيا من “رحمة قرطاج”، والأحزاب والكتل الداعمة له، بعد أن مكنها – حتى بكثير من “التقية السياسية”-، من فرض ارادتها ، من خلال تحويل “هوية” الحكومة لتصبح سياسي بامتياز، فانهما ( المشيشي و حزامه السياسي) عليهما أن يدركا أنه تم “تصحيح المسار الدستوري”، وأن في تونس اليوم أحزاب تحكم وأخرى تعارض، دون أن ننسى “رئيس للجمهورية” له حساباته وأجندته الخاصة، و يقطن في “كوكب اخر” وفق قوله، ولا أتوقع أنه سيعدل بوصلته، ويكون أكثر تعاونا مع المشيشي وحزامه السياسي والبرلماني.
في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وكذلك الصحية ( وباء الكورونا) الصعبة والمزعجة، وفي ظل أزمة سياسية سوف لن يزيدها التحوير الوزاري الأخير الا تجذرا، خاصة في علاقة بتصاعد متوقع للصراع بين قرطاج والقصبة، الذي سيشل أعمال برلمان يعاني من الشلل أصلا.
مما تقدم فان البناء الديمقراطي في تونس يواجه تحديات جمة في ظل مؤسسات سياسية ضعيفة وثقة شعبية متراجعة وأزمات شاملة ومعقدة وخانقة، ومع ذلك نرى أن تجربة تونس لم تفشل بعد وفرص نجاحها لم تنعدم.
والثورة تدخل عشريتها الثانية، محملة كما أشرنا سابقا بتحديات داخلية واقليمية وصحية، كيف سيتصرف المشيشي وما هي الحلول الممكنة لديه؟ وهل بمقدور “صاحب القصبة” تجاوز أزمة غياب الاستقرار الحكومي، التي اصبحت هيكلية وتهدد السلم الأهلي و وحدة الدولة فضلا عن تحول بلاد قراطاج الى بلد معزول دوليا؟
Comments