التلفزيون .. وفن التلاعب بالعقول
بعيدا عن التسرع، وبكل موضوعية أعتبر أن اعلامنا- خاصة التلفزيزني – فوت على نفسه فرصة ادارة حوار وطني، يساعد الناس على الفهم كما يساعد صناع القرار، في ادارة الشأن العام، بل أنه تحول في الكثير من البرامج الى “شعوذة” وبحث سخيف عن “الاثارة”، من أجل ابتزاز شركات الاعلان، وتشويه الذوق العام، وتصح في الكثير منهم ما قاله عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو، عندما وصفهم ب “المتلاعبون بالعقول”.
ان تنامي دور التلفزيون في صياغة وتوجيه الرأي العام، جعل منه محور اهتمام المشتغلين في حقل العلوم الانسانية والسياسية، خاصة علم الاجتماع الذي أصبح يمارس سطوة أو هيمنة على كل المجالات المعرفية، الاجتماعية والسياسية والثقافية. وفي هذا الاطار تتنزل الدراسة النقدية لعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو “حول التلفزة”.
يعود اهتمام بورديو بالتلفزيون الى مشاركته في برنامج تلفزي، مشاركة أثارت لديه أهمية بل ضرورة كشف أليات اشتغال هذا “الصندوق العجيب”. وقد جاءت مقاربته نقدية وصارمة جدا، حاول من خلالها تعرية هذه الآلة الجهنمية التي دخلت كلّ بيت وقامت بتشكيل مزيّف لرأي عام محكوم بما يشاهد لا بما يفكر.
عمد بورديو الى “تبيان الإيديولوجيات الخفية المتوارية في تفاصيلها العادية، والبسيطة. هذا البسيط الذي لا يثير الانتباه ينطوي على خبث دفين يتسرب بمكر إلى أذهان المشاهدين على أساس انه خبر من الأخبار المتفرقة أو حدث من الأحداث العادية، أو حتّى يتبدى كمجرد لعبة رياضية ولكن بروح تجارية خفية. فلا شيء يخضع لمزاج الصدفة في الزمن التلفزيوني المحسوب بالثواني”..
بين بورديو أن التلفزة تخفي أكثر مما تبرز على خلاف ما هو متعارف عليه عند عامة الناس. وهو هنا “يريد القبض على الخيوط الخفية والكواليس التي تحرك هذه الآلة المركبّة التي تحوّلت إلى سلاح فتاك”.
يدحض بوردية المسلمات التي تقول بأن التلفزة هي في خدمة انتشار أو التعريف بالانتاجات الابداعية في مختلف المجالات. بل أنه يشير صراحة ودون مواربة الى ” خطورة التلفزيون على الإنتاج الثقافيّ من فن وأدب وعلم وفلسفة وفنّ وقانون، وخطورته أيضا على الديمقراطية والحياة السياسية (فهو يدرس التلفزيون الديمقراطي أي التلفزيون الذي يبثّ في دول غربية ديمقراطيّة الظاهر ) بسبب انه وقع تحت سلطان السوق، واللهاث وراء الإقبال الجماهيري”..
بالنسبة لبورديو “انّ مجرد «فكرة ما يطلبه الجمهور» جعلت من التلفزيون أداة خطرة، ومرهونة، وعرضة لشتى الانحرافات. ويتوقف الكاتب عند حالات كثيرة ونزاعات دوليّة استغلها التلفزيون لتنمية حصته في السوق دون أي اعتبار للمسائل الأخلاقية (…) في سبيل رفع منسوب المشاهدة مع ما يعنيه ذلك من قضم حصة اكبر من سوق الإعلانات”..
ينتقد بورديو برامج التولك شو – الحوارية، التي تروج لخطاب هزيل وتغيب بل تقصى كل ما هو جاد ومفيد. فمن خلال مراقبته للبرامج الحوارية يرى “ان الخطاب الجيّد مستبعد من التلفزيون على افتراض انه مضجر، أو متمرد على لعبة السوق. ان «عقلية الأوديمات« audimat، كما يقول الكاتب أي عقلية نسبة الإقبال على البرامج هي التي تفرض شروطها على البرامج وتحدد اولوياتها ومصيرها”.
اللافت للانتباه أن بورديو لا يرى فرقا بين برامج «التوك شو» وحلبة المصارعة على الإطلاق، بل انه حين يغوص في تفاصيل الكواليس ليقرأ ما يدور في الخفاء، ويدرك مدى الخداع الذي تقوم به هذه البرامج. ويقول أيضا “ان الحوار الديمقراطي على الشاشات يستلهم نموذج «المصارعة الحرة» حيث يجب ان تكون هناكنسمة
الومواجهات وتحرشات وفي الوقت نفسه فان كل الضربات غير مسموح بها”..
يكشف بيار بورديو من خلال كتاباته “حول التلفزيون” عن دهاء البراءة المعلنة لبرامج تلفزيونية كثيرة ويظهر قدرة التلفزيون على ان يغيّرك وأنت لا تدري وان يخرج من فمك كلمات وآراء تظن أنّها آراؤك وكلماتك ولكنها في العمق ليست منك. أليست ذروة الخداع التلفزيوني هي ما بدأ يتسرّب إلى الشاشة تحت اسم ضالّ ومضلّ وهو «تلفزيون الواقع» وليس له في العمق من الواقع إلا الوجه المخادع المشغول بحنكة عالية في كواليس سلطان السوق؟
Comments