التنظيم السري: النهضة في دائرة الاتهام .. مرة أخرى ؟
كتب: منذر بالضيافي
أعاد الحديث عن “التنظيم السري”، من جديد الجدل حول العلاقة بين الاسلاميين والنخب “العلمانية”. كشف أنه وبرغم كل “الليونة” التي تعاملت بها جماعة “النهضة”، فان “أزمة الثقة” ما تزال تميز علاقاتهم بالعديد من قوي المجتمع التونسي وخاصة النخب، خصوصا بعد ما برز من ارتباك من قبل “النهضويين” في التعاطي مع الاتهامات التي وجهت لهم، والذي تجلى في رفض الاعتراف بحقبة السرية وبأن الحركة قد قامت بتصفية “ارث السرية”.
ما يجعل الحركة الاسلامية مطالبة بتفنيد كل “التخوفات”، عبر التعاطي بإيجابية وبتفاعل عقلاني مع المجتمع التونسي، من خلال الانتصار إلى “إسلام حركي تونسي”، يأخذ في المقام الأول خصوصية التجربة التحديثية التونسية، التي تعود إلى حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر، وتعد الدولة الوطنية استمرار لها.
و ذاك عبر العمل من أجل التأسيس لتوافق بين “هوية المجتمع” و “علمانية الدولة”، على غرار ما حصل في التجربة التركية التي تحظي بالإعجاب لدي النهضة. و الابتعاد عن الأخطاء القاتلة التي طبعت تجارب حكم الإسلاميين، في السودان وإيران وأفغانستان. و لعل الضمانة في عدم الوقوع في مثل هذه التجارب، تكمن في كون المجتمع التونسي له من الحصانة ما يجعله قادرا على حماية مكاسبه بل حراستها من كل تهديد أو ردة.
هذا ما يفسر أن هناك إقرارا بأن للحركة الإسلامية في تونس خصوصية، فأغلب الدراسات التي أنجزت حول الإسلامية التونسية، تشير إلى أنها تطورت ضمن السياق التاريخي والاجتماعي التونسي، ما سمح ب “تونسة” النهضة لا “أسلمة” تونس، وهو ما سعت الحركة لتأكيده، وما زالت لم توفق فيه كثيرا.
من ذلك تخليها عن “الصقور” في المشهد السياسي والاعلامي، وهي العلامة “الفارقة” أو البارزة، التي أرادت الحركة، ممثلة في خط الواقعية السياسية أو البراغماتية بزعامة الغنوشي التأكيد عليها.
فأرادت الإعلان على الملأ أنها اختارت إقصاء الوجوه المحسوبة على “التشدد”، والمعروفة بقربها من أطروحات التيار السلفي، ومن أطروحات الرعيل الأول أو من جيل المؤسسين، ومن الذين يتمسكون بأفكار وحلم المشروع الإسلامي، مثلما خطط له في بدايات “العمل الإسلامي” في تونس، سواء ضمن “الجماعة الإسلامية” في السبعينات أو “الاتجاه الإسلامي” في الثمانينات.
وبالتالي بداية الشروع في تصفية تركة وفكر الحركة الإسلامية الدعوية التقليدية، باتجاه التدرج نحو بناء حزب مدني حديث، يستجيب لكل مواصفات “الحزب” الحديث من حيث المؤسسات والقيادة وأساسا البرنامج، في علاقة بالأرضية الفكرية والإيديولوجية التي يستند إليها. وهنا سجلنا خطوة أولى للفصل بين “السياسي” و “الدعوي”. هي قطعا ستبقي في حاجة إلى مراجعات ستكون دون شك “مؤلمة”، قد تصيب النسيج الداخلي بالتصدع، وستكون على حساب المقولة المركزية للحركة، والمتمثلة “في واجب المحافظة على وحدة الصف”.
بالعودة الى قراءة في الممارسة السياسية للحركة منذ العودة للنشاط الرسمي بعد الثورة نلاحظ وجود ما يمكن أن نصفه ب “خطوة للأمام وخطوتان للوراء” في علاقة بجدية التوجه نحو بناء “حزب مدني”.
فالخطوة الى الأمام تمثلت في محاولة الانفتاح على وجوه من خارج “أبناء الحركة” (الانتخابات التشريعية والبلدية)، في مسعى واضح مفاده أن الحركة ليست “جماعة” مغلقة، مثلما يصر خصومها على وصفها. بل أنها مفتوحة على كل التونسيين، أيا كان “التزامهم الديني”. وأنها بذلك ليست “طائفة” مقطوعة عن الحراك الاجتماعي والثقافي العام في البلاد.
بالإضافة إلى رسائل الداخل، فان هناك رسائل أخرى هامة جدا للخارج، الذي يراقب عن قرب مسار “تطور الحركة”. خاصة في ظل استمرار وجود نخبة غربية وأمريكية ما زالت تراهن على ضرورة الفصل بين “إسلام معتدل” و “إسلام جهادي”.
ولعل زعيم النهضة الشيخ راشد الغنوشي، يولي أهمية كبيرة لصورة الحركة في الخارج. إدراكا منه بأن إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية الداخلية أصبح يمر عبر الخارج. كما أن الخارج بدوره، أصبح في حاجة ملحة لحركات إسلامية معتدلة في مواجهته مع الجماعات المتشددة، التي تنامي تأثيرها بطريقة وصلت حد مفاجأة مراكز البحث وصناع القرار في واشنطن وباريس ولندن …
ولعل ظاهرة “داعش” في بروزها وانتشارها السريع وفي أسلوب “الصدمة” و”الرعب” الذي انتهجته، أعاد من جديد “ورقة” الإسلاميين إلى الواجهة. وهنا تجد حركة النهضة نفسها أمام امتحان جديد، خصوصا وأن فترة حكمها تميزت بتساهل مع المتشددين، وصل حد إقدامهم على غزو سفارة الولايات المتحدة، التي ستبقى نقطة سوداء في علاقة النهضة بواشنطن.
هذا الحراك الذي تعيشه “النهضة”، والذي اتسم بالمرونة والواقعية في التعاطي مع المتغيرات، برز ذلك بالأساس عندما اختارت الخروج من الحكم، على “الانتحار السياسي” مثلما حصل مع إخوان مصر. غير أنه ما زال يقابل بنوع من عدم الثقة في الداخل والخارج، ما يجعلها دائما تحت طائلة الاختبار. وهو تحدي سيعطيها الحافز للتفرغ لإعادة “البناء” وتجاوز مخلفات فترة حكم فاشلة سواء لما قادت الحكومة (الترويكا) أو عبر المشاركة في الحكم بعد انتخابات 2014.
لذلك فان النهضة مطالبة بإجراء قراءة نقدية علنية لمساراتها أثناء فترة السرية وهل تم القطع معها؟. وأثناء تجربة الحكم، التي غذت مطامعها أكثر في “الانقلاب” على المجتمع والدولة، ما جعلها تكون محل حركة رفض اجتماعي واسعة، وتزيد في تقوية منسوب “أزمة الثقة” في علاقة مع بقية القوى السياسية والمجتمعية.
كما عليها أن تفهم جيدا التحولات الجارية في خارطة الحركات الإسلامية، عبر التمييز بين الإصلاحية أو المعتدلة وغيرها المتشددة. فضلا على ضرورة استيعاب الحداثة والعلمانية في الفكر والممارسة السياسية. وهي كلها مقدمات ضرورية للقطيعة مع الأخونة أو الإسلاموية التقليدية، لبناء حزب “إسلامي ديمقراطي”، على غرار تجربة الأحزاب المسيحية في الغرب الأوروبي.
حينها يمكن الجزم بأن حركة النهضة قد تغيرت، وبلا رجعة.
Comments