التونسي والفضاء العام .. صحوة عابرة أم فعل سياسي قادم ؟
هشام الحاجي
سيبقى 20 اكتوبر 2019 راسخا في اذهان التونسيين و التونسيات و في سجل “المبادرات المواطنية ” اذ شهد حدثا غير مسبوق القى بظلال التغييب على الاحتفال بذكرى “ولادة العلم التونسي” في شكله الحالي و لو ان للحدثين ارتباطا من حيث الاحالة الى الشعور بالانتماء و ببعض خصوصيات الشخصية القاعدية التونسية .
عاشت تونس على امتداد اليوم على وقع “احتلال جميل” للفضاء العام من خلال حملات تنظيف و تزويق جماعية شملت كل مناطق البلاد و تركت صورا لا تخلو من جمالية و من دلالات يمكن التوسع في قراءتها .
قد يكون مفيدا الانطلاق في محاولة القراءة من التعارض العميق الذي عكسته صور الناشطين و الناشطات من مختلف الاعمار و التي تنضح حياة و حيوية و صورة رئيس بلدية صفاقس الذي “شارك ” في الحملة و هو في كامل “اناقته المكتبية ” و بتصنع يؤكد عجز اغلب المجالس البلدية عن ممارسة عمل القرب و عن اصلاح الوضع البيئي و تدهور النظافة .
لكن التنسيب يفرض الاشارة الى تفاعل ايجابي من بعض المجالس البلدية و بعض المؤسسات و هو ما من شانه ان يكون حافزا لهيكلة العمل التشاركي و الارتقاء به على قاعدة التخطيط و الندية لان “الافراط في الحماس” من بعض الناشطين قد يفتح الباب امام اعتداءات عفوية او مقصودة على القوانين النافذة و مخططات التهيئة و المواقع و المعالم و الملك العمومي و هو ما يمثل في العمق تهديدا للعيش المشترك و بقاءا في مربع الانطلاق مربع تدهور الوضع البيئي و انتشار البذاءة و القبح الجمالي .
لا شك ان هذه الحملة تقبل عدة قراءات و ذلك لانفتاحها على الفضاء السياسي و الدلالة الجمالية و لأهمية الفضاء العام في تشكيل الوعي و في “التحكم في اجساد المحكومين” . و يمكن الانطلاق من الاشارة الى انه من الصعب تصور وجود الانسان خارج التفاعل مع الالوان و مع الاصوات و ما الثقافة الانسانية في جوهرها الا تفاعل كبير مع هذين المعطيين .
لكن اهمية الالوان لم تجد صداها في الابحاث العلمية التونسية اذ ظلت الدراسة التي قام بها عالم الاجتماع التونسي عبد الوهاب بوحديبة حول الالوان و الثقافة يتيمة رغم ما شهدته المسالة من تطورو ظهور متغيرات كبرى من ابرزها تطور “ثقافة الشارع ” و ما رافقها من تحولات .
و من اهم التحولات في هذا الاطار ما تعيشه تونس في السنوات الاخيرة من تغيير سياسي انعكس على العلاقة بالفضاء العام الذي يشهد منذ سنوات محاولات اعادة تملك تمثل عملية “تزويق الفضاء العام ” و ايضا اعادة صياغة العلاقة مع الملك العمومي احد مظاهرها .
اذا كانت سنوات غض النظر و التساهل مع الدعوات المتطرفة قد شهد حضورا بارزا للون الاسود و لراية العقاب فان الحملة الاخيرة قد ردت الاعتبار للألوان الزاهية و المبشرة بالحياة و هو ما يمثل في حد ذاته مكسبا لان القضاء على القتامة من شانه اعادة بناء علاقة اكثر ايجابية مع الفضاء العام و لان الالوان الزاهية و الحية تحيل الى التجارب الديمقراطية الحقيقية.
و هو ما يتجلى في المجتمعات المتطورة سياسيا و التي تحتفي بالألوان و الاضواء و الانارة في حين يحيل اللون الاسود الى الفاشية الايطالية و الضبط التسلطي لأجساد المحكومين .
بما ان لكل واقع عدة جوانب فان سياق الحملة يطرح بعض الفرضيات التي لا تمس من اهميتها و من ايجابية ما عكسته من استبشار و تفاؤل و تمسك بالحياة . ارتباطها بانتصار قيس سعيد في انتخابات رئاسة الجمهورية جعل البعض يرى فيها “مبادرة ” تندرج في اطار التحريك المبرمج للجموع و التحكم في ردود فعلها من اجل تحويلها الى “عجينة طيعة ” لمخطط يطبخ بعيدا عن الاعين .
تصعب محاكمة النوايا و استباق الاحداث رغم ان شبكات التواصل الاجتماعي و بعض غرف توجيه الراي العام قد اصبحت اداة تحريك و تأثير فعالة . و لكن ما يبدو اهم هو الاشارة الى مبادرة المواطنين القيام بحملة تنظيف و تزويق عامة تمثل رسالة تفاؤل يتعين على الجميع ان لا يجعل الاحباط نتيجتها لان ذلك سيفتح الباب امام ردود فعل عكسية و هي خطوة لإصلاح علاقة المواطن التونسي بالفضاء العام لان التونسي لا يتحرج من “الاعتداء المتكرر ” على الفضاء العام بالعنف اللفظي او بإلقاء الفضلات و اعقاب السجائر و الاكياس دون ان يرف له جفن و دون ان يشعر انه مخطئ بهذا السلوك و هو ما يعني عدم القدرة على مغادرة الحلقة المفرغة دون تغيير عميق و دائم للسلوك.
هشام الحاجي
Comments