“الجمهورية الجديدة” .. تصفية الارث السياسي “لعشرية الثورة”
منذر بالضيافي
بانتصار “نعم”، في الاستفتاء على دستور “الجمهورية الجديدة”، الذي أصبح ساري العمل به منذ الثلاثاء 16 أوت الجاري، اثر اعلان هيئة الانتخابات عن النتائج النهائية، وذلك بعد استيفاء كل مراحل الطعون، ليتولى لاحقا الرئيس قيس سعيد الامضاء عليه والقاء خطاب بالمناسبة، ثم أمر بنشره بالجريدة الرسمية، تكون تونس قد دخلت “جمهورية جديدة”، يراد لها أن تقطع مع الجمهوريتين السابقتين، مثلما خطط لذلك ونفذ القائم عليها، وسط حيرة وتساؤلات حول حظوظ استمرارها، وهي “الجمهورية” التي طبعت بشخص الرئيس الحالي قيس سعيد.
بصرف النظر عن الجدل الذي رافق كتابة هذا النص القانوني الهام، الذي تقول المعارضة و غالبية رجال القانون، أنه من تأليف الرئيس، وبقطع النظر أيضا عن الظروف التي تم فيها الاستفتاء، فان الدستور الجديد – الذي أصبح واقعا – من شأنه أن ينقل البلاد، بحكم الأمر الواقع إلى “جمهورية جديدة” ( الجمهورية الثالثة )، بعد جمهورية عام 1959 (بعد الاستقلال) وجمهورية 2011 (ما بعد الثورة).
قوبل ختم الدستور من قبل الرئيس، ب “حالة برود” رغم حرارة الطقس وانتشار الحرائق في سفوح عدد من الجبال، ومرد هذا “البرود” السياسي والشعبي على حد السواء، سببه تواصل التوتر السياسي والانقسام المجتمعي وتعمق الأزمة الاقتصادية، وهو ما خلق “مناخ” من “اللامبالاة المجتمعية”، في التعاطي مع الشأن السياسي عموما، تفسره محدودية الاقبال على المشاركة في الاستفتاء ( 25 جويلية 2022 )، التي رأى فيها معارضي الرئيس مؤشر دال على تراجع شعبيته، ومعتبرين أنها ترتقي الى التشكيك في “شرعية” هذا النص الهام، وبالتالي فان ديمومته ستكون في تصورهم مرتبطة بفترة حكم الرئيس سعيد.
على خلاف ذلك فان الخطاب الرئاسي بمناسبة ختم الدستور، الذي كان متوجها بالأساس الى خصومه السياسيين في الداخل والى انتقادات الخارج، شدد على أن لحظة المرور الى دستور “الجمهورية الجديدة”، يرتقي الى ”يوم من الأيام التاريخية الخالدة وهي كثيرة وليس أقلها 25 جويلية من هذه السنة والسنة التي قبلها”، وتابع قائلا: “إنّه يوم التطابق بين الشرعية الدستورية والمشروعية الشعبية، معتبرا أنّ ما قام به هوّ ”تصحيح لمسار الثورة ومسار التاريخ”، بعد أن ”ساد الظلام… واستفحل الظلم في كل مكان…”.
سيسفر اعتماد الدستور الجديد عن إلغاء العمل بالدستور السابق الذي تبنته الجمعية التأسيسية في عام 2014 التي تم انتخابها ديمقراطيًا قبل أحد عشر عامًا من قبل أكثر من أربعة ملايين ناخب.
وسيدفع الدستور الجديد باتجاه تغيير شامل للمؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، مع توقع إحداث في الوقت نفسه، (اختلال) توازن جديد بينها ( تهميش دور البرلمان القادم). بحكم الواقع وكذلك بحكم القانون، و سوف يُعَبِد هذا الدستور الجديد الطريق أمام الرئيس قيس سعيد لتنفيذ بقية خارطة الطريق الخاصة به، القائمة أساسًا على تغيير قانون الانتخابات، وتنظيم انتخابات تشريعية جديدة في نهاية العام الحالي ( 17 ديسمبر 2022).
الثابت اليوم، ان تونس قد دخلت طورا جديدا في الحكم، مختلف عن الذي ساد خلال العشرية السابقة، نمط واسلوب حكم، هو الأقرب الى استعادة للنظام السلطوي السابق عن الثورة ( مركز كل السلطة التنفيذية بيد رجل واحد). وهو ما كرسه قيس بوضوح منذ 25 جويلية 2021، وعمل لاحقا على تقنينه او جعله قانوني، من خلال الدستور، الذي قدمه الرئيس قيس سعيد للاستفتاء في جويلية الفارط.
وبهذا تكون تجربة “الديموقراطية التونسية” التي ميزت العشرية المنقضية، قد اصبحت من الماضي، وتشير كل المعطيات المتوفرة على ارض الواقع، الى ان التجربة قد دفنت وانه لا امل في احيائها، و ان الاستمرار في الانكار خاصة من قبل المعارضة لمسار سعيد بقيادة الحركة الاسلامية ، لن يغير في الواقع شيئا، على الأقل على المدى المنظور.
وان الرئيس قيس سعيد ماض في توطيد اركان ” الجمهورية الجديدة”، ذات حكم “الرجل الواحد”، في استعادة صريحة لإرث “السلطوية” الذي ميزت حكم تونس زمني بورقيبة وبن علي.
وان ضغط الخارج – خاصة الغربي و الأمريكي – لاستعادة المؤسسات الديمقراطية مثلما كانت عليه قبل 25 جويلية 2021، لن يوقف قطار احلام ساكن قرطاج، مستفيدا من تهرأ معارضة الداخل، ومن دعم شعبي ما يزال مستمرا برغم غياب منجز في الواقع، وأيضا مستفيدا من تناقضات القوى الكبرى وصراعها حول المنطقة. و قبول – حد الترحاب – من قبل النظام الرسمي العربي، الذي فرح بغلق القوس الديمقراطي في تونس، الذي مثل لهذا النظام “وجع رأس” طيلة السنوات الأخيرة، هذا النظام الرسمي العربي، المعادي للمواطنة ولفكرة الديمقراطية، فضلا عن وجود بيئة اجتماعية وثقافية، تربت على ارث ثقافة “الاستبداد” و “الطاعة”.
وفي رسالة طمأنة للخارج قبل الداخل، قال الرئيس سعيد في خطاب ختم الدستور: “يا ابناء شعبنا العظيم في كل مكان سيتم ان شاء الله في الفترة القادمة وضع قانون انتخابي جديد والقوانين الانتخابية وحتى ان كانت دون الدساتير مرتبة فان اثرها على سير المؤسسات ليس اقل من احكام الدستور كما سيتم في اقرب الاجال ارساء المحكمة الدستورية للحفاظ على علوية الدستور وخاصة لحماية الحقوق والحريات التي ينص عليها الدستور الجديد وهي اكثر من الحقوق والحريات التي تم التنصيص عليها في الدستور الذي انهى الشعب وجوده.”
وهي اشارة، مفادها أن البلاد مقبلة على “انفتاح سياسي”، من خلال تأكيد التزامه بتنفيذ ما تبقى من “خارطة الطريق”، التي سبق وأن أعلن عنها، ونعني هنا بالأساس تنظيم انتخابات برلمانية موفى السنة الحالية، وهو استحقاق يحظى بمتابعة كبيرة محليا ودوليا.
لذلك فان الجميع ينتظر القانون الانتخابي، الذي سيكشف عن نوايا الرئيس الحقيقية في المجال السياسي، خصوصا وأن الدستور الجديد همش دور المجلس النيابي، وهو ما ينسجم وتصورات الرئيس حول الأحزاب ودورها في الحياة السياسية، ومع ذلك فان القانون الانتخابي سيمثل “اختبار” أخير للرئيس في ما يتعلق بوجود حياة سياسية في البلاد.
Comments