الحجر الصحي الشامل .. مهم لكنه غير كاف
منذر بالضيافي
في مسعى للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) ، الذي أصاب ما يقارب نصف مليون إنسان في العالم، وأدى لوفاة أكثر من 19 ألف مصاب. لجأت عشرات من دول العالم، إلى فرض حجر صحي أو قيود على تنقل مواطنيها. فهل حقق هذا الاجراء مقاصده؟ وما هي تداعيات استمراه على تواصل النشاط الانساني؟
يرجع اللجوء الكبير، من قبل عديد دول العالم للحجر الصحي بل واعتباره الحل الوحيد في الوقت الراهن لمجابهة الفيروس، الى الحملة الاعلامية الضاربة، التي مورست على الرأي العام وعلى صناع القرار، لا في بلادنا تونس فقط بل في الكثير من عواصم العالم، والتي بنيت بالأساس على نتائج معلنة من الصين وهي دولة منشأ الفيروس، دون تثبت من “صدقية” المصدر وهو الجهة الرسمية الصينية، التي تتهم بكونها مارست التعتيم في بداية انتشار الفيروس، فضلا عن كونها دولة النظام القوى والمغلق، وشديد الهيمنة والمراقبة على المجتمع وكل المؤسسات والمرافق، سوى من قبل أجهزة الدولة أو عبر الحزب الشيوعي، الذي يضع يده على كل مناحي الحياة ولا ينفصل عن الدولة.
هذا لا يعني التشكيك المطلق، في نتائج “الحصار الصحي” المعلن عنها في دولة الصين، بل أيضا يشير الى أنه لا يمكن تحميل أو استنساخ المثال الصيني، الى بقية الدول الأخرى وذلك بالنظر لاختلاف بل تباين البعدين الثقافي والسياسي، بين الصين وبقية بلدان العالم الأخرى، خاصة ذات التوجهات الليبرالية، برغم أن الصين تسلك نهجا ليبراليا، لكنه تحت “حراسة” الدولة والحزب الحاكم.
بعيدا عن الصين، فان تجربة “الحصار الصحي”، لم تكن موفقة وذات نتائج مهمة في عواصم أخرى، ففي كوريا الجنوبية كان الفضل بالأساس وفي المقام الأول، للتقدم بل التفوق التكنولوجي، في محاصرة الفيروس والتقليل من مخاطره، من خلال حملة واسعة وبتقيات متطورة جدا ساعدت في الكشف عن المصابين، وبالتالي هذا ما سهل عملية المرور للعلاج دون ان نغفل عن مزايا “الانضباط المجتمعي”، وهو معطى ثقافي وأنتروبولوجي، مساعد في حالة الدول الاسيوية، وقد يكون معيقا في الدول الغربية والافريقية وفي بلادنا تونس، التي تتبع نمط وسلوك حياتي اخر.
كما أن الدول التي اختارت الذهاب نحو “الحجر الصحي” الشامل، مثل الصين وكوريا ، وفي أوروبا ايطاليا وفرنسا، تمتلك اقتصاديات قوية وقادرة على الصمود، فضلا عن قدرة على تأمين حاجيات مواطنيها فترات قد تطول، من التغذية والطاقة والرعاية الصحية بفضل أنظمة صحية واستشفائية متماسكة، وليس هو حال البلدان الضعيفة وذات الاقتصاديات الهشة، مثل بلدان افريقيا ومنها تونس، التي باختيارها – وتحت ضغط الاعلام خاصة ومواقع التواصل الاجتماعي – انتهاج سياسة الحجر الصحي، ستكون في مواجهة اختبار كبير، وللحقيقة يتجاوز قدراتها وامكانياتها.
بالمناسبة، في تونس نشير الى أنه وبرغم مظاهر الارتباك، التي أقدر أنها متأتية من حجم وهول الأزمة بالأساس، وبرغم عمر الحكومة الذي لم يتجاوز الثلاثة أسابيع، ونقص الامكانيات وتردي الأوضاع الاقتصادية والخدمات الأساسية في القطاعات الحيوية ومنها الصحة، التي وورثتها عن الحكومة التي سبقتها، ونقص التجربة والخبرة في ادارة الأزمات، فان معالجة أزمة الكورونا ما تزال “تحت السيطرة”، بعيدا عن الخوض في جدل عدد الفحوصات المسجلة، اذ أن المؤشر المهم برأي، يبقى متمثل اساسا في عدد الوفايات، وهو “معقول” جدا بل ومتحكم فيه في الحالة التونسية، وحتى اجراء “الحجر الصحي” حرص صناع القرار على أن لا يشل البلاد، وفي ذلك وعي بالتداعيات السلبية على وضع البلاد في حالة اعلان “الحجر شامل”.
لكن، مع ذلك فانه على الحكومة التونسية، أن تعيد حساباتها في ما يتعلق بسياسة محاربة الكورونا، وهنا أتفق مع التوصيف الرسمي و المتداول بأنها “حرب”، خاصة في ما يتعلق ب “الحجر الصحي” الشامل، الذي يعني الاستمرار فيه الى أجل غير مسمى، أن البلاد وبالنظر الى امكانياتها المعلومة ستكون عاجزة عن المجابهة، وهو ما يفترض التخطيط لاستئناف النشاط الاقتصادي والتجاري في البلاد، لكن، كيف ذلك؟
لابد من الاقتناع بداية وفي المقام الأول، بأنه ليس هناك “وصفة” واحدة ومتفق عليها لمجابهة هذه الحرب البيولوجية، التي فاجأت العالم بأسره بما في ذلك الدول المتقدمة، التي ما يزال الكثير منها تحت وطأة الصدمة، ولعل هذا ما يفسر لجوئها الى أيسر الحلول، المتمثل في دعوة الناس الى التزام البقاء في بيوتهم، وهي دعوة لم تكن كما بينا محل نجاح من بلد الى اخر، نظرا لاختلاف البعدين السياسي (النظام السياسي) والثقافي (نمط واسلوب العيش)، فما يصلح في الصين لا يمكن استنساخه في باريس وروما وتونس … ونعني هنا تحديدا في علاقة بخيار “الحجر الصحي”.
هذا الخيار الذي حول أكثر من ملياري إنسان تحت قيود الحجر الصحي في مختلف مناطق العالم، اذ تراهن الحكومات على إجراء التباعد الاجتماعي، لأجل كبح الوباء، لاسيما بعدما تحسن الوضع في الصين، حيث ظهر الفيروس لأول مرة، أواخر العام الماضي، ثم انحسر فيها، على نحو ملحوظ، خلال الآونة الأخيرة.
لكن، هذا الحجر الصحي، واضافة الى أنه لم يمكن من القضاء على الفيروس، ولا أيضا الحد منه، على غرار ايطاليا وفرنسا واسبانيا، حيث استمر عدد الاصابات والوفايات في صعود، وفي المستوى الاجتماعي والسوسيولوجي، أدخل حالة من الملل غير المسبوقة، فالإنسان “مدني بطبعه” كما قال العلامة بن خلدون، ولا يمكن له العيش خارج بعده “الاجتماعي – التواصلي”، الذي لا يمكن أن تعوضه مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية، وان استطاعت التخفيف منه في “زمن الكورونا”.
وهنا يتساءل كثيرون، في تونس وفي كل عواصم العالم حول مدة “الحجر الصحي”، وهل سيستغرق عدة أسابيع أم أشهرا وأعواما، نظرا لحاجة أي لقاح محتمل ضد الفيروس إلى مدة تتراوحُ بين سنة و18 شهرا، بحكم حاجة المختبرات إلى تجارب مكثفة لرصد أي مضاعفات جانبية محتملة.
ان الحل برأي، الذي يمكن انتهاجه بما يسمح بتواصل الحياة والنشاط الانساني، يكمن في ترشيد هذ “الحجر الصحي” الشامل، الذي تحول الى سجن كوني كبير، وذلك عبر التكثيف من اجراء فحوصات الكشف، وجعلها تشمل أكثر ما يمكن من السكان، بما يسمح من السماح لغير المصابين أو المشتبه بهم، من العودة الى سالف نشاطهم العادي، وبالتالي عودة الروح الى الساحات العامة والى المصانع، فالبقاء لا يكون داخل سجن البيوت في انتظار الموت، بل لابد من المواجهة وذلك منطق الحروب، سواء كانت تقليدية أو بيولوجية مثلما الحال اليوم.
كما لابد أن تترافق حملة الكشف الشامل التي ستقلص من حدة الحجر الصحي، مع استعمال الأدوية التي ثبتت لحد الان نجاعتها، والتي استمات في الدفاع عنها الباحث والطبيب الفرنسي، ديديه راوول، اضافة الى الصرامة في تطبيق القواعد الصحية المتصلة بالنظافة الشخصية، والعناية بنظافة المحيط ..
حينها، تعود الحياة لطبيعتها، فالهروب للبيوت مهم ولكنه ليس وحده الحل، بل هو لو طال سيكون عنوان العجز ذاته.
Comments