الحراك الليلي” .. “الشيطنة” بدل “الفهم” !
منذر بالضيافي
مقابل “تصاعد الاحتجاجات الليلية “، التي انزلق الكثير منها للتخريب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة وعلى الامن الذي لاحظنا أنه التزم بمهنية وحرفية عالية في التعاطي مع هذه “الاحتجاجات”، نلاحظ وجود خطاب اتصالي انكاري من قبل أحزاب حكمت البلاد طيلة “عشرية الثورة”.
ونعني هنا تحديدا “حركة النهضة”، الذي شككت تصريحات قياداتها في “شرعية” هذه التحركات، وركزت على “ادانة” و “شيطنة” ما حصل من تخريب، وهو محل ادانة من الجميع، لكن لابد من تفكيك أسبابه.
وبالعودة لتصريحات بعض النهضويين نجدها قد طالبت الحكومة بالكشف عما يقف وراء التحركات، وتجاوزت ذلك الى حد الاتهام المبطن لرئيس الجمهورية قيس سعيد، من خلال اشارتها الى وجود صفحات “فيسبوكية” تكلمت باسمه، رد عليها هذا الأخير، وبطريقة أيضا “غير مباشرة”، في زيارته اليوم للمنيهلة، من خلال اتهامه جهات بتحريض الشباب على الفوضى، و “مباركته” لمطالب الجمهور الحاضر الذي خطب فيهم ب حل البرلمان”و “الاحزاب”، وهو ما بثه فيديو لرئاسة الجمهورية، بما يعني “موافقة” الرئيس على “طلب الجماهير”.
بالعودة لتفاعل “النهضة” مع “الحراك الليلي” نلاحظ أن خطابات وتصريحات قادتها ورموزها استعادت اسطوانة مشروخة، تتهم فيها بعض التيارات اليسارية بالوقوف وراء ما حصل بناء على مساندتها للتحركات الاحتجاجية ودعواتها لأنهاء منظومة الحكم الحالي.
وفي هذا تهرب من مسؤولية تردي الأوضاع في البلاد، وهو سلوك انكاري سيزيد الأوضاع تعفينا، وهو تبرير لا يختلف كثيرا عن تعاطي نظام بن علي قبل عشرة سنوات، مع احتجاجات 2010/2011 التي توجت بثورة على نظامه، وهو الذي اتهم المحتجين في مدن التهميش، وأحياء الصفيح حول المدن الكبر ب “الشرذمة الضالة”، ويبدو أن “الجماعة” لم تتعظ من دروس التاريخ القريبة، وأن عقلها السياسي غلب عليه المكون “السلفي” التاريخي لا الديني هذه المرة.
بعيدا عن “المناكفات السياسوية”، فان الحركات الاجتماعية والاحتجاجية الغير مؤطرة، من قبل الاطر التقليدية مثل النقابات والاحزاب، عادة هي عفوية وتأخذ اشكالا عنيفة.
و هذا ما حصل مع السترات الصفراء في باريس منذ اشهر قريبة، التي صاحب بعض تحركاتها اعمال نهب وتخريب، طالت قلب باريس، ومثلت صدمة للمجتمع الفرنسي.
يتكرر في تونس اليوم ذات السيناريو، مع فارق اساسي كونها تحركات ليلية – وهذا مستراب – وهي في الواقع لا يمكن اعتبارها مفاجأة، اذ انها تستنسخ ما حصل في مناسبات سابقة، بما في ذلك بعد ثورة 14 جانفي 2011، و لعل ابرزها ذلك الذي حصل بين ديسمبر 2010 و جانفي 2011.
والتي لم يفلح نظام بن علي في شيطنتهم، واعتبارهم “شرذمة ضالة” و”متطرفين” وحتى “ارهابيين”، وهي التي تمكنت من تقويض نظامه، من خلال انتفاضة شعبية تحولت الى ثورة عارمة تجاوز تأثيرها وصداها حدود الرقعة الجغرافية التونسية.
ذات الاتهامات نراها توجه اليوم ، وبرغم ادانة التخريب والعنف والخروج ليلا، وهو محل اجماع تقريبا، فانه لابد من العمل على فهم هذه الحركات، التي يقودها المهمشون، دون قيادة ويرفضون ايضا التنظم والتأطير.
والحل ليس في الشيطنة والبحث عن التفسير “المؤامراتي”، او التسليم بالحل الامني/ البوليسي الذي جرب وفشل في مناسبات سابقة، و الذي من شأنه ان يدعم ازمة الثقة في المؤسسات، خاصة توسيع منسوب الكره ل “البوليس”، الذي نشدد – مرة أخرى- على أنه تعامل بحرفية مع “الحراك الليلي”.
برغم “تصاعد الاحتجاجات الليلية ” التي انزلقت نحو التخريب والاعتداء على الممتلكات والامن، وتنذر – لو استمرت – بالذهاب نحو الفوضى، فان “الصمت الرسمي” يبعث على الحيرة والقلق.
سواء من قبل رئيس الحكومة بوصفه رئيس السلطة التنفيذية ، او رئيس الجمهورية بوصفه المؤتمن على الامن القومي. كما ان “عجز ” الاحزاب وخاصة التي تتصدر المشهد – خاصة البرلماني – بدوره ” مريب”، خصوصا وان دورها اساسي في الاتصال المباشر بالناس، الذي لا يجب ان يقتصر على المواعيد الانتخابية، بل انه يصبح ضروريا زمن الازمات، التي تعد مناسبة تختبر فيها قدرة هذه الاحزاب على تأطير الجماهير.
وهو ما يفرض الخروج من دائرة “الصمت” لأن استمرار التحركات الليلية وانزلاقها نحو العنف سيكون مقدمة للفوضى والمس بصحة وحياة التونسيين في زمن انتشار عدوى الوباء ، وهو ما يمثل خطرا محدقا باستقرار البلاد وبصحة مواطنيها.
أخيرا، نقول أن تعاطي الاعلام التونسي خاصة التلفزيوني ، مع ” الحراك الليلي” الذي تعرفه بلادنا منذ يومين ، وما صاحبه من اعمال عنف وتخريب ، ضعيف جدا وأعادنا سنوات كثيرة للوراء.
وذلك خاصة بالمقارنة مع تغطية بعض القنوات العربية والاجنبية التي يدس اغلبها ” السم في العسل” خاصة الخليجية منها التي لها أجندات مفضوحة، وبهذا يتوقع – في ظل ضعف الاعلام المحلي – ان يعود التونسيين لمتابعة اخبار بلادهم من خلال بوابة الاعلام الخارجي.
و بالمناسبة، اكرر ما قلته مرارا وتكرارا، بأن الاعلام التونسي، يعيش “أزمة هيكلية”، تفسر ضعف مضامينه ومهنيته، و عدم تفاعله السريع مع الأحداث، وتواصل سيطرة بيروقراطية غير مفهومة على أدائه.
وهي ازمة تعمقت اكثر خلال العشر سنوات الاخيرة، من خلال انتقال الهيمنة ووضع اليد على الاعلام ، خاصة الجماهيري ( القنوات التلفزية و بدرجة اقل الاذاعات) من الدولة قبل الثورة ، الى اعلام خاص بتمويلات اقل ما يقال فيها في حاجة للتدقيق .
ويبقى السؤال: تونس الى أين؟
Comments