الحكومة بين “الترقيعي” و”الاستراتيجي”
بقلم: خالد شوكات
في ظل هيمنة عقلية “صراع المصالح” بالمعنى الضيق والتافه على الحياة السياسية، وما يخلقه هذا الصراع من أجواء ضاغطة بالمعنى النفسي، عادة ما يدفع الحاكم إلى وظيفة “إطفاء الحرائق” بدل “إجراء الإصلاحات”، وأمارة هذا التمشي من سواه، ما سيطلقه هذا الحاكم من “إشارة” أو إشارات، فضرب الحديد لا يكون الا وهو ساخن، فإن برد صعبت معالجته، ولهذا سار العرف في الأنظمة الديمقراطية المستقرة على منحه مائة يوم “لرمي بياضه”، فإما “مصلحاً” وهو ما نتمناه، وإمَّا “مسايرًا” وهو ما لا نرضاه اذ سيعيدنا لسيرة من مضى خلال السنوات التسع الماضية، حيث لا احد تقريبا تجرأ على الاصلاح بشجاعة واثق الخطوة صلب الشكيمة بعيد النظر عازما على التغيير المنشود.
وَمِمَّا يجعل المرء في حيرة من الأمر، ان رئيس الحكومة الجديد بدا حريصا في بعض تصريحاته على ربط سيرته المنتظرة بمرجعية رئيس الجمهورية، فان سار الرجل على درب الرجل فلا أظنه سيرسل شيئا يوحي بالجدية، فخلال المائة يوم من حصيلة حكم الاستاذ لم يرى الناس شيئا ملموسا غير اصراره على مواصلة “الحملة التفسيرية” وهي المرادف لغة واصطلاحا ل”الحملة الانتخابية”، ولهذا فالنصيحة – ونحسبه يحبّ الناصحين- ان يغادر المجال الرئاسي ذو الطبيعة التفسيرية، الى مجال الحكم اين يجب ان يرى الشعب من الغد ان امكن جولات ميدانية وخطوات عملية توحي للناس بان رئيس الحكومة راغب في الاصلاح ما استطاع كما ضرب المثل القرآني الذي استشهد به إبان مقابلته البرلمانية الاولى.
يحتاج المرء كي يكون مصلحاً الى الجرأة في الحق لا الى المجاملة والمداهنة، ولهذا فهو مطالب بإجراء جولة سريعة وحاسمة مع اتحاد الشغل للاتفاق على اعادة انتاج الفوسفاط الى سالف عهده، والى إنقاذ القطاع العام بإعادة بناء المؤسسات العمومية سواء بايجاد حلول داخلية لها ان امكن او التفريط فيها جزئيا او كليا كما جرى في دول اخرى، وهذا الحل او ذاك ممكن ومقبول، ولكن من غير المقبول ان يستمر الحال على ما هو عليه، وهو ما ينطبق ايضا على ملفات الصناديق الاجتماعية والتنمية في الجهات الداخلية، والوضع الكارثي في مطار قرطاج وميناء رادس، وغيرها من القضايا التي ستدل على عزم الرجل على الاصلاح او جنوحه للهدنة والبحث عن حلول مؤقتة لن تفضي بالبلاد الا الى مزيد من تعميق ازمتها وتعفين أوضاعها وانعدام الامل لدى غالبية مواطنيها.
سيجد رئيس الحكومة الجديد من بطانته – التي لم تظهر ملامحها بعد- من قد ينصحه بالتريّث حتى يشتد عوده فيكون اقدر بذلك على مواجهة المفسدين، ولكنني لا انصحه بذلك أبدًا ان قبل منّيَ، فما اراه ان يظهر للشعب بأسه في الحق وتوجهه مباشرة الى الاصلاح ليكون الشعب ظهيره ونصيره، ومن كان الشعب ظهيره ونصيره لا يخيبنّ ابدا، وكذا قالت عِبَرُ التاريخ ودروسه. إن من اشد هنات دستورنا الحالي منحه السلطة التنفيذية لمن لا تفويض شعبي له، ومن هنا كان رئيس الحكومة غالباً خائفاً مترددا عينه على قرطاج او باردو طالبا الرضا والدعم، ولهذا فرأيي ان يعمد السيد الفخفاخ الى طلب التفويض من الشعب عبر خوضه معارك الاصلاح ومكافحة الفساد مباشرة، فإن ناله بصدق التوجه وجرأة التنفيذ اطمأن اليه الناس وكانت المبادرة بيده والمسايرة لبقية مؤسسات الحكم، فضلا عن الأحزاب والمجتمع المدني والإعلام، وما اخشاه في حال بدا عليه غير ذلك ان يتجرأ عليه الخلق تدريجيا وان تتكرر صور الماضي القريب وتناقضاته، على نحو تصبح فيه الحكومة كل يوم على مشكلة مختلقة وتمسي بالضرورة على “تكركيرة”.
Comments