الخطاب الآخر زمن الكورونا
شعبان العبيدي
انصبّ الخطاب السياسيّ والإعلامي منذ بدايات انتشار هذا الوباء بشكل متسارع، وأظهرت وسائل الإعلام في متابعتها لهذه الجائحة التي تحوّلت في زمن وجيز إلى وباء كوني، انتشر بسرعة فائقة في كوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا وإسبانيا وغيرها… تعاطفا عالميا وتوجيها توعويا بغية لفت نظر المجتمعات إلى وسائل الحيطة والمقاومة. ولم نر فيما نقلته وسائل الإعلام إلاّ نقدا صريحا لمحاولة السلط الإيرانية التكتّم على الوباء وعدم اتّخاذ وسائل الحماية والاستعداد الجيّد لمجابهته. كذلك كان الشأن في البلدان الأوروبية الّتي اتّخذت إجراءات وتمشيّات مرحليّة لعلّها كانت السبب في سرعة انتشار الوباء.
وكانت بلادنا مع قرب الوباء وانتقاله بين بلدان المتوسطّ، قد اتّخذت جملة من الإجراءات الاستباقية حسب ظروف مؤسساتها الصحيّة من جهة، وحسب ما تفرضه الحاجة إلى المحافظة على سير عمل المؤسّسات الوطنية والاقتصادية. وكان اكتشاف أوّل حالة في الثاني من شهر مارس، بداية الدّخول عمليا من طرف وزارة الصّحة والفريق الطّبيّ في العمل المتواصل، والحرص على التّوعيّة لتحفيز المواطنين العائدين من بؤر الفيروس المستجد على اتّباع تعليمات الحجر الصحيّ الذّاتي، والالتزام باحترام التراتيب الوقائية. وكان من المنتظر بالنّسبة للمرصد الوطني للصحّة أن تتزايد حالات الإصابة. ومع ارتفاع بطيء اتّخذت الحكومة إجراءات جديدة مرحلية ثم إجراءات ثانية أعلن عنها رئيس الحكومة بعد اجتماع وزاري، منها تقديم العطلة المدرسيّة وتقليل الرّحلات. ولكنّ ثقافة الجلد والتهجّم على الحكومة، والسّعيّ إلى التشكيك في مصداقية قراراتها وجديّة إجراءاتها بات مدخلا لتصفيّة الخصومات السيّاسية والعودة إلى مربّع الصّراع ما قبل الوباء. بل أصبح البعض يتنبأ بشيء من الوحيّ بوجود صراع بين الرئاسات الثلاثة، وبين البرلمان ممثّلا في رئيسه وبين القصر ممثلا في رئيس الجمهورية.
وبقطع النّظر عن حقيقة الحكومة الجاليّة وعن طبيعة أدائها وهي في خطواتها الأولى تقع أمام اختبارين بين شدقي الموت: اختبار وبائي مفزع، مع تهلل المؤسسات الطبيّة منذ عقود، واختبار انهيار اقتصادي زاده الوباء تعقيدا. فإنّ الواجب الأول الذي جعل الوباء يصل مرحلته هذه في بلادنا هو غياب الوعي المواطنيّ واحترام القانون وثقافة الانتماء الجماعي وحمايته، ولعلّ مظاهر اللامبالاة زيادة على تهوّر البعض في رفضهم الاستجابة للحجر الصحّي الطوعيّ حفاظا على سلامة الآخرين كان ناقوس خطر، وظاهرة وجب على الكلّ مواجهتها بالخطاب والتوعية والإعلام عنها. وثانيهما إظهار حدّ من الهدوء وتأجيل الحسابات الخاصّة أمام عظم الجائحة. لأنّ الغاية الّتي لا يختلف حولها التّونسيون اليوم هو الخروج بأخفّ الأضرار من هذا الوباء. ولا شكّ أنّ حقيقة الخلاص في التزامنا بالحجر الصحيّ والوقاية وقانون حظر التجوّل. وليس الخلاص بيد السلطة وإن كانت مشاركة فيه.
ففيّ أي خانة تدخل هذه المقارنات بين خطاب الرئيس الفرنسي ورئيس الحكومة التونسيّة؟ إن لم يكن ضربا من الانفعالات النفسية ومحاولة تقزيم رئيس الحكومة. وفي أي خانة تدخل هذه التهجّمات المتواترة على خطاب رئيس الجمهورية؟ إن لم تكن دفعا في سبيل مزيد من الإرباك وتعميق الأزمة السياسيّة. لماذا يسعى كثير من المراهنين والواقفين على باب السّلطة طلبا لمكان والمغامرين الذين يدّعون أنّ لهم باعا في السياسة إلى تقسيم ما هو مقسّم بطبعه، وإلى إظهارنا دائما أمام الرّأي العام العالمي في صور مضحة متفّهة.
لست قطعا من الرّاضين على هذا التقاسم الهزيل للخطاب بين رئسي السلطة: رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، ولست كذلك راضيا على ما جاء في خطاب رئيس الجمهورية مضمونا وشكلا ولا على هذا التّعالي اللّغوي في خطاب متوحّد بات يضجر سامعيه لا يجمعهم. وربّما أعتبر مثل الكثيرين أنّ توقيت فرض حظر التجوّل مثل وجوده أو عدمه… وهل هذه الإجراءات كفيلة بمجابهة هذا الوباء والخروج منه أم هي بالعكس لا ترتقي إلى فهم حقيقي لكيفية محاصرته. ولكن الواقع الاقتصادي والقضايا الاجتماعية ومشكل المؤسسات كلّها عوامل لا أتصوّر أنّها كانت غائبة في تحديد الإجراءات.
لهذا خلاصنا بأيدينا، خلاصنا في تضحية ولو مع نقص في المواد وعوج في البطن، فنوم على جوع خير من موتة على حماقة. دعونا نقف مع أجهزتنا في مواجهة هذا الدّاء والبلاء، دعونا نحمي أبناءنا وعائلاتنا ومجتمعنا، لتعود الحياة والدّراسة والعمل بعد طرد هذا الوباء… ثمّ عودوا إلى معارككم التي لا تعنينا. هذا هو الخطاب الآخر زمن الجوائح.
Comments