الدبلوماسية التونسية .. الغموض المحير !
منذر بالضيافي
يمنح الدستور و منطق تقسيم النفوذ و الصلاحيات و المهام رئيس الجمهورية مجال السياسة الخارجية. و من منطلق حرص قيس سعيد على ممارسة هذا الحق و على التأكيد على أن البلاد لا تحتمل إلا رئيسا واحدا اخذ يحاول وضع بصمته على السياسة الخارجية منذ وصوله لقصر قرطاج وهو الذي بادر من الأسبوع الأول الى اقالة وزير الخارجية السابق خميس الجهيناوي في مسعى واضح لتصفية “ارث دبلوماسية” الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي.
وقد برز هذا التوجه من خلال الأنشطة الدبلوماسية لساكن قرطاج، في الداخل من خلال استقبال كل من الرئيس التركي أردوغان و أمير دولة قطر، ما جعل بعض المتابعين يرون في ذلك قرب من “المحور “القطري- التركي”، وابتعاد عن المحور “السعودي – الاماراتي”، الذي عرف حيوية زمن حكم الرئيس الباجي قايد السبسي، خاصة تمتين العلاقة مع المملكة العربية السعودية.
أما في البعد الخارجي، فان الرئيس سعيد “زاهد” في السفر وهو الذي غاب عن محافل دولية مهمة كانت ستكون مشاركة تونس مفيدة لها على غرار مؤتمر برلين حول ليبيا ومنتدى دافوس، فضلا والقمة الافريقية، فضلا على كونه لم يلبي العديد من الدعوات التي وجهت له من قبل عدة عواصم عربية ودولية.
نبقى في البعد الدبلوماسي الخارجي لنشير الى أن تنقل سعيد خارج تونس، وبعد أكثر من مائة يوم في قصر قرطاج، قد اقتصر على زيارتين “خاطفتين”، الأولى لسلطنة عمان معزيا في وفاة السلطان قابوس، وجاءت في سياق أقل ما يقال فيه أنه غامض، وغير معلوم الخفايا والدلالات لتخلف ورائها الكثير من الأسئلة التي ما تزال تبحث لها عن أجوبة. التنقل الخارجي الثاني كان الى الجزائر، ومن خلال ما تم الاعلان عنه فإنها كانت عبارة عن “روتين ديبلوماسي” محلي، اذ تعود رؤساء تونس أن يكون أول سفراتهم نحو هذا البلد الشقيق، الذي تربطنا به حدود طويلة وممتدة وروابط تاريخية وجغرافية تفرض “التعهد” المستمر.
ومما تقدم نلاحظ أن الدبلوماسية التونسية قد شهدت أسوأ مراحلها مع وصول قيس سعيد لقصر قرطاج جعلت المراقبين في الداخل والخارج يجمعون على أن تونس دخلت في “عزلة” خارجية ستكون لها تداعياتها السلبية – لو استمرت – خصوصا في ظل المصاعب الاقتصادية التي تمر بها بلادنا والتي لا يمكن الخروج منها الا عبر دعم وسند خارجي قوي ومؤثر. دون أن ننسى “المخاطر الأمنية” التي ما تزال ترمي بظلالها وتمثل خطرا يهدد استقرار لا تونس فقط بل المنطقة برمتها، بسبب تأخر الحل في ليبيا وتحولها الى “بؤرة توتر” ، اضافة الى “تمدد” الجماعات الارهابية في ليبيا ودول الساحل والصحراء. لذلك فان تونس في حاجة الى دبلوماسية مستوعبة للتحديات التي اتينا عليها ونشطة يقودها “محترفون” يكون قطعا رئيس الجمهورية “راس حربتها”.
في هذا السياق لا نرى أن وزير الخارجية الجديد، نورالدين الري، وبالنظر الى تجربته الدبلوماسية والمواقع التي شغلها سواء في الادارة المركزية أو في قنصلياتنا وسفاراتنا بالخارج، سيكون هو “العصفور النادر” لإصلاح ما أفسدته المائة يوم الأولى من حكم الرئيس قيس سعيد دبلوماسيا، برغم أنه أعلن يوم واحد بعد منح حكومة الياس الفخفاخ الثقة في البرلمان، عن “خطة لإصلاح العمل الدبلوماسي”.
اختيار نورالدين الري وزيرا للخارجية يثير عدة تساؤلات حول دواعيه و ذلك بالنظر إلى أن الوزير القادم إلى وزارة الشؤون الخارجية من سفارتنا بمسقط لا يملك في مسيرته مؤهلات قد تساعده في أداء مهامه إذ لم يشتغل إلى جانب صربيا إلا في المغرب و الكويت و سلطنة عمان في حين أن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي و واشنطن هي التي تمثل أولوية الأولويات في ظل ما يرتبط بهذه العلاقات من النواحي الإقتصادية و الأمنية المرتبطة بها و ما يتردد في الكواليس من أن العواصم الكبرى لا تخفي عدم ارتياحها من توجهات و نوايا قيس سعيد التي ما تزال غامضة وغير معلومة.
وبالعودة الى “نوايا الاصلاح الدبلوماسي”، نشير الى أن لقاء الوزير بالرئيس، كان قد “قدّم لرئيس الدولة خطّة إصلاح منظومة العمل الدبلوماسي مبّينا أنّ هذا الإصلاح سيكون مبنيّا على قواعد موضوعية لإعطاء دفعة معنوية لأبناء السلك الدبلوماسي وتشجيعهم على القيام بواجبهم في الدفاع عن مصالح تونس والتعريف بمواقفها وتعزيز علاقاتها مع البلدان الشقيقة والصديقة”، وفق بلاغ صادر عن الرئاسة التونسية، وهو كلام فيه الكثير من العموميات في انتظار الكشف عن استراتيجية دبلوماسية واضحة المعالم ومستوعبة للتحديات وأيضا قادرة على تصحيح اشعاع وصورة تونس في الخارج.
استراتيجية تبقى برأينا في حاجة الى دور حيوي من الرئيس، .من خلال الحضور في كل عواصم العالم وفي كل الملتقيات والمنتديات الدولية، متسلحا بخطاب دبلوماسي “عقلاني” و “براغماتي” وكذلك بخطة اتصالية ناجعة. فهل أن الرئيس سعيد مدرك لهذا التحدي ومستعد له؟
لا نستبعد أن أولي أمر دبلوماسيتنا غير مدركين لما سبق وأن ذكرت، ولعل هذا ما جاء في بلاغ الرئاسة خلال أول لقاء جمع الرئيس سعيد بوزير الخارجية الجديد، اذ “أكّد على أهمية التذكير بثوابت تونس الدبلوماسية ودعم بلادنا لكلّ القضايا العادلة والمساهمة في حلّ الأزمات الإقليمية خاصّة في البلدان القريبة منا، واستعادة مكانة تونس لتكون البوصلة في منطقة الجوار ولتكون صوت الحقّ والاعتدال والتقارب بين الشعوب”.
فهل ستغادر دبلوماسيتنا دائرة الغموض، وتستعيد عافيتها وبالتالي تبعد عن بلادنا شبح “العزلة” الدولية، في فترة تونس في أشد الحاجة ، الى دبلوماسية نشطة ومنفتحة على الجميع ؟
Comments