الدولة لا تغمز !؟
بقلم: خالد شوكات*
كان من أسباب انحيازي للحبيب الصيد في الأزمة السياسية التي عاشتها بلادنا بين ماي وأوت 2016، وانتهت بسقوط الحكومة لأوّل مرة في تاريخ الجمهورية أمام البرلمان، عبارة قالها وأثّرت فيَّ أيّما تأثير، “إنَّ الدولة لا تغمز”، أي أنّ الدولة تملك خطابا واضحا موحدا توجّهه باطنا وظاهرا لكل من تتعامل معه، وعليها بالتالي ان تتفادى ازدواجية الخطاب وجميع السلوكيات التي تنكرها الاخلاق، وان تعمل على طمأنة مواطنيها على حقوقهم من خلال هذا المسلك الحميد، وان تدافع عن مصالحها او وجهات نظرها بأساليب تتعالى عن الشبهات.
استحضرت هذه العبارة وانا اتابع مجريات تشكيل حكومة الحبيب الجملي المعلنة وردود الافعال عليها، خصوصا الهجومات التي تشن على كثير من أعضائها، بالحق والباطل طبعاً، أو تصريحات بعض من كانوا مرشّحين لها ولم تشملهم “العناية الجملية” بالاختيار، وخلاصة الامر عندي ان السبب في كل هذا “الانهيار” الذي وصفه بعضهم ب”تشليك الدولة”، مردّه اساسا اعتماد منهج “الدولة الغامزة”.
اي الدولة التي تخرج عن أعراف وقواعد الاجتماع السياسي الديمقراطي المألوفة والمتعارف عليها منذ عقود ربّما، الى عالم “الأمزجة والأهواء والمصالح الضيقة والرؤية المحدودة”، عالم “اللاقواعد” و”الخبط العشواء” الذي يفتح المجال أمام كافة أنواع “المتحيّلين والمغامرين والمقامرين والوسطاء والسماسرة” ليلعبوا دورا بلا ضابط، إما ليتولوا بأنفسهم المناصب او ليولوا من يرونه مناسباً، وهو ما يجعل العملية السياسية غير جديرة بالاحترام، ونتيجتها الكارثية معروفة سلفا.
إن جوهر العملية الديمقراطية يكمن في اضفاء أكبر قدر من “النزاهة” و”الوضوح” على المنهجية المتبعة في تشكيل مؤسسات الحكم، في مواجهة العملية الاستبدادية التي تجعل الحكم عملية مزاجية يشكّلها هوى الحاكم الفرد ومزاجه، ومن هنا يذهب المواطنون الى الانتخابات لاختيار من ينوبهم في الحكم، وغالبا ما يعرفون سلفا من بمقدوره ان يتولى المسؤولية، وبعبارات أبسط يذهب المواطنون لانتخاب نوّاب الشعب من بين الأحزاب المترشحة، لكي تتشكل الحكومة لاحقا من بين القيادات الحزبية، وهو أمر يضمن امضاء المحاسبة وتحميل المسؤولية.
كما ضمن الوضوح والنزاهة والشفافية في اختيار اشخاص تعرف خلفياتهم السياسية ومرجعياتهم الحزبية وسيرتهم في العمل العام أمام الرأي العام. ما معنى الكفاءة بعد اليوم، وما هي الرسائل التي سنوجهها للناشئة، سواء تعلق الامر بإفراغ المنظومة الحزبية مجددا من مضمونها، من خلال تجاوزها، أو تعلق بالتحصيل الدراسي والأكاديمي، او بالمساءلة والمحاسبة مادامت الحكومة لا صلة لها بمن انتخبهم الناس ولا خوف للمسؤولين الجدد من اي متابعة حزبية او شعبية.
إن القصص والروايات التي بلغت مسامعي عن مغامرين أفرادًا وضعوا لأنفسهم سيرًا ذاتية مختلقة، وروجوا لأنفسهم بوسائط مشبوهة، وعن مجموعات شكّلت ما يشبه العصابات للوساطة السياسية والسمسرة الحزبية، وعن أشخاص مقرّبين دمويا من اصحاب القرار، وعن حكايات الأخذ والرد والطلوع والهبوط لمن سترسو عليه “الرولات” ليصبح وزيرا او كاتب دولة، مسائل يصعب تصديقها من هولها لكنها وقعت..
أخيرا، انظر بكثير من العطف والشفقة لأولئك الذين أفنوا أعمارهم في النضال السياسي، وبعضهم قدّم زهرة شبابه فداء للتغيير الثوري، يواجهون مرّة بان اشكالهم وصورهم لا تلائم متطلبات الحكم، ويواجهون مرّة اخرى بأنه ما كان لهم ان يفعلوا ما فعلوا.. كان الاجدر بهم أن يغمزوا، أن يداهنوا، أن يحافظوا على عذريتهم الحزبية، فيربحوا بذلك الدارين، دار ما قبل الثورة، ودار ما بعدها، والنتيجة أنهم قد خدعوا مرّتين.. في زمن الشيخين.
Comments