الديمقراطية كبيئة مناسبة لنموّ الشعبوية!؟
خالد شوكات
أصوات الحكمة والعقل في البيئة الديمقراطية الراهنة نشاز لا تطرب، حتّى صارت وسائل الاعلام الاقوى هي تلك التي تعتمد الإثارة وتروّج للتفاهة وتمنح أدوار البطولة فيها لرموز الرداءة والشعبوية، بل حتى عندما يمنحون الكلمة لصوت حكيم وعاقل يعمدون الى التلاعب بأقواله او استدراجه واستفزازه حتى يحوّلون مادّته الى النوع الذي يستسيغه الجمهور، فيبدو مثيرا ومضحكاً.
أتذكّر اخر الحوارات التي اجراها اعلام الإثارة والشعبوية مع العلّامة محمد الطالبي، الذي يعتبر احد ابرز علماء اللاهوت في بلادنا، واحد اهم المحققين في تراثنا، واحد اكثر المفكرين المجددين المصلحين انتاجا، فإذا بالصحافة المرئية والمسموعة الصفراء تقدّمه للاجيال الجديدة أضحوكة وشخصية مهتزة وكوميدية ومادة للتندّر أو التخوين والتكفير لدى شرائح الغوغاء والجهلة.
السطحية والشخصنة والاستفزاز والتفاهة والرداءة هي المفاتيح المهيمنة على الخط التحريري لكبريات المحطات التلفزيونية والاذاعية، والخبث والأجندات اللئيمة هي المحدّدات التي تحكم سلوك عدد كبير من مقدمي البرامج والكرونيكيرات، وهكذا يصبٌ الماء على الزيت، ويشجّع أراذل القوم والجهلة على تسلّق المنابر وغلبة أهل الرأي والمعرفة، وتكون الحجة الغالبة ان “الاوديمات/نسبة المشاهدة” هي الضابط المحدّد للمسألة الإعلامية، مما يخصّب البيئة الديمقراطية اكثر للشعبوية..
ما جادلت جاهلا الا غلبني، الامام علي
تفقّد سيرة الأنظمة غير الديمقراطية، السابقة في بلدنا، وفيّ بلدان اخرى، يحيلنا الى ذات النتيجة، اي ان الأنظمة الديمقراطية هي الأكثر ملاءمة للشعبوية والرداءة والتفاهة، قياسا بالانظمة الفردية والتسلطية. الحاكم المستبد غالبا ما يصد الأبواب امام نمو هذه الظاهرة باعتباره مركز القرار والناظم لمختلف جوانب الحياة، فحساسية هذا النوع من الحكام حيال الانفلات والفوضى الاجتماعية تجعله حريصا على التحكم في نوعية المادة الإعلامية والفكرية والثقافية، خلافا للحرية غير المسؤولة التي تحيل اليها الديمقراطية، خصوصا في فترات الانتقال المتسمة بالهشاشة، والتي تجعل العملة السيئة تطرد العملة الحسنة غالباً.
ان المتأمل في المشهد الإعلامي والسياسي الراهن المرتبط بعقد الديمقراطية هذا، سيصل اذا ما قارناه بعقود الاستبداد الى هذه الحقيقة المفزعة التي نراها، انحطاط غير مسبوق في جودة النخبة، وتراجع لا نظير له في نوعية المادة السياسية والإعلامية، وتقهقر مريع لمنظومة القيم والمبادئ في ضبط سلوك الساسة وصنّاع الرأي، وتدهور كبير وخطير لمؤسسات التدريب والتكوين والتأهيل.
هناك من يبرِّر هذا الواقع المرير بانتقالية المرحلة وهشاشة الديمقراطية الناشئة، وان الوقت كفيل باصلاح الحالة وتعديل المزاج وتراكم الخبرة لصالح الجودة، لكن هذا التبرير لا يحجب المخاطر الكبرى المتربصة، اذ كثيرة هي التجارب التي استسهلت الشعبوية فوجدت نفسها تعيش أوضاعا من الخراب والدمار والضياع، كان من الصعب معالجتها لاحقا الا بكثير من الآلام والتضحيات، ولعل اخطر النماذج هي التي تجرّد وطنا من بوصلته، وتحرمه من حقّه في الحلم وفيّ اكتساب مشروع حضاري.. وطن يصبح غاية حكّامه الترقيع وإطفاء الحرائق حتى ينقطع النفس..
انني لا أستطيع التنفس.. انني اختنق..قال العملاق اللطيف الاسود جورج فلويد، رحمه الله.
Comments