الديمقراطية والعسكر .. في ذكرى أليندي ومرسي
خالد شوكات
أكرّر دائما ذات القناعة منذ سنوات بأن بين العالم العربي وأمريكا اللاتينية عناصر شبه كثيرة، وعناصر اختلاف أيضا، ولعل المستعمر الإسباني الذي ورث الأندلس عن العرب والمسلمين لعب دورا في هذا التواصل المعنوي الذي كسر هدير بحر الظلمات أو المحيط الأطلسي. أمريكا اللاتينية التي يشكل “المستيزو” (خليط من البيض والسود والعنصر الهندي الأصلي) غالبية سكانها، قسّمت الى دول متعددة غصبا عنها خدمة للأجندة الاستعمارية، تماما كما فعلت معاهدة سايكس بيكو بالعرب،
وقد ظهر في مجالها كما في المجال العربي قادة كريزماتيون سلاحهم الصدق والخطابة والعزيمة، حاولوا توحيدها مثل “سيمون بوليفار” الذي يحمل جمال عبد الناصر بعض ملامحه المحببة لدى الشعوب التائقة للعدالة. وقد أشار الرئيس الفنيزويلي اليساري الراحل “هوغو شافيز” الذي قدّم نفسه لشعبه ولشعوب امريكا اللاتينية كمجدد للمشروع البوليفاري الى ان اكثر شخصية أثرت فيه هي شخصية الرئيس المصري رائد القومية العربية جمال عبد الناصر.
ولا شك ان رغبة امريكا اللاتينية في استكمال استقلالها وتحررها الوطني عن الولايات المتحدة، تلتقي الى حدود بعيدة مع رغبة العرب في إنجاز استقلال حقيقي وتحرر وطني عن القوى الاستعمارية الغربية القديمة والجديدة التي ما تزال تمتلك مصالح كبيرة في المنطقة تجعلها حريصة على مواصلة تدخلها المباشر في مراكز القرار في مختلف العواصم العربية.
مرّت امريكا اللاتينية منذ استقلالها عن اسبانيا والبرتغال في بداية القرن التاسع عشر بأطوار سياسية كثيرة، اتسمت في مجملها بتعاقب أنظمة مدنية وانظمة عسكرية على الحكم، تماما كما هو الحال تقريبا في المجال العربي، وهو ما جعل التاريخ الحديث والمعاصر في المنطقتين يحمل ذات الجدل حول العلاقة بين الوطن والدين والدولة واليمين واليسار والديمقراطية والطغمة العسكرية، وبروز ذات القادة والابطال والثورات الشعبية العظيمة والنهايات الدموية الحزينة وحقب الاستقرار النسبي والحروب الأهلية والنزعات الاستقلالية والتحررية والانقلابات العسكرية ذات الشعارات الوطنية والفاشية.
وفي امريكا اللاتينية ظهرت اول تجارب الانتقال الديمقراطي بالمفهوم المعاصر منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، تماما كما عرفت ذلك الدول العربية بعد سقوط نظام صدام حسين سنة 2003، وبعض الأنظمة العربية التسلّطية اثر ثورات الربيع العربي سنة 2011. وقد نجحت بعض تجارب الانتقال الامريكية اللاتينية وفشل بعضها، تماما كما هو حال التجارب العربية.
فتجربة بلد كتشيلي كانت ناجحة نسبية، بعد ان خرج الديكتاتور بيونيشيه من السلطة.. بيونيشيه الذي نفذ انقلابا دمويا اطاح بنظام الرئيس المنتخب ديمقراطيا سلفادور اليندي، الذي جرت تصفيته دمويا وقيل لاحقا انه انتحر، ولم يمكث اليندي في الحكم اكثر من سنتين، وبقيت ذكراه عالقة في اذهان الديمقراطيين التشيليين تغذي صبرهم على الام الاستبداد وتنكيله بهم لما يقارب العقدين، حتى انتصروا له وثأروا لدمه بإعادة الديمقراطية.
وثمة شبه لا يمكن انكاره بحسب المهتمين بتجارب الانتقال الديمقراطي، بين الرئيس التشيلي المغدور سلفادور اليندي والرئيس المصري الراحل محمد مرسي، فكلاهما كان يمثل التيار السياسي الأكثر شعبية في بلده، التيار اليساري في تشيلي السبعينيات والتيار الاسلامي في مصر في مطلع القرن الواحد والعشرين؛ وكلاهما كان يمثل الاتجاه المعتدل والواقعي في تياره قياسا باتجاهات ثورية عنيفة، كما كان كلاهما نائبا برلمانيا في أنظمة سياسية مرتبطة بالقوى الدولية ذات النفوذ في المنطقة، وكلاهما انتهى نظامه بتدخل الجيش وترتيبه للعملية، وموت مرسي يشبه الى حد كبير موت اليندي، وهو من نوع الموت الذي يطيل في عمر صاحبه ويحوِله الى بطل قومي.
وَكما في امريكا اللاتينية، اين انكسرت أشواق الشعوب اكثر من مرة، وانتهى كثير من قادة التغيير الثوري او الديمقراطي نهاية حزينة، بالانقلاب او النفي او حتى الانتحار او المرض الخبيث، وانتهت كثير من التجارب التغييرية والديمقراطية الى الهزيمة بفعل تحالف داخلي مدعوم من الخارج، فان المجال العربي لا يخلو ولن يخلو من هذه النهايات الحزينة لتجارب ثورية تحررية وديمقراطية رائدة، عادة ما تتظافر فيها عوامل عدّة من أهمها تسخير الجهل والفقر والشعبوية من قبل ادوات الدعاية القوية المرتبطة باجهزة الاستخبارات الدولية وجماعات المصالح الداخلية، للقضاء على فرصة تاريخية للتخلص من الاستبداد والتبعية، لكن جذوة التنوير لا تخمد بالظلمة، فبعد الظلام يحلّ الصباح..رحم الله سلفادور اليندي ورحم الله محمد مرسي.. ورحم الله جميع شهداء الحرية والعدالة والديمقراطية في جميع بقاع الكون.
Comments