الزمن الاتصالي: من “المستبدّ” إلى “الكرونيكور”
بقلم: خالد شوكات
من أهم ملامح “الزمن الاتصالي” الذي نعيش، بروز مهنة جديدة تسمّى “الكرونيكور”، حتّى ان احد الباحثين في علم الاتصال السياسي لم يتردد في القول: “لقد انتقلنا من استبداد الدكتاتور إلى غلبة الكرونيكور”، في إشارة الى المكانة التي اصبح يحظى بها هذا الكرونيكور في صناعة الرأي العام وتوجيه الأحداث السياسية والتأثير على مراكز القرار، حتّى ليمكن القول بان هذا الدور قد تجاوز احيانا في قوة تأثيره ما عليه حال القيادي الحزبي والناشط السياسي والماسك بزمام السلطة.
الثابت عندي ان الكرونيكور سيتحوّل الى مبحث من مباحث علمي السياسة والاتصال في المستقبل القريب، فقد تحوّلت هذه المهنة الإعلامية الجديدة إلى ظاهرة حقيقية في الفضاء العام، تزداد سطوعاً واستجداء لهمّة الباحثين، خصوصا في ظل المراحل الانتقالية كهذه التي نمر بها، والتي تتميز بهشاشة سياسية وقانونية واخلاقية توسّع من مجال تدخّل الكرونيكور في الشأن العام. ليس هناك تعريف محدد وضع في المعاجم والقواميس او غيرها من المراجع ل”الكرونيكور”، اذ قد يكون صحافيا او سياسيا او ناشطا مدنيا او “مدوّنا” (مع وجود إشكال في تعريف المدوّن) او غير ذلك، وظيفته في البرنامج التلفزيوني او الاذاعي ان يكون محلّلاً مساعدا او مكملا للإعلامي الذي يقدّم “البلاتو” او الحصّة أو يدير الحوار.
عادة ما تكون المساحة المتروكة له للتدخل اكبر من تلك المتاحة لصاحبها والمسؤول عنها نفسه، تكاد تعادل المساحة المتاحة للضيف أحياناً أو تزيد. وميزة الكرونيكور انه “شريك في الربح خارج من الخسارة”، فهو غير ملزم بالحياد (الظاهري) الذي يلزم به الإعلامي مقدم الحصّة، وهو ليس ملزما بأخلاقيات المهنة الصحافية والإعلامية باعتباره ليس (رسميا) صحافيا او اعلاميا، كما هو غير ملزم بالتعبير عن خطه الحزبي او الفكري او الايديولوجي كضيوف الحصة.
هو متحرر من جميع الأغلال ويقول ما يريد، كأنما رفع عنه القلم بمصطلح العلوم الشرعية. لمت مرّة احد اصحاب البلاتوهات الإذاعية، كيف يشطح فلان (الكرونيكور) ويردح حول كتاب لي لم يقرأه، فكانت إجابته غريبة، فلان كرونيكور حصّته هزلية، لماذا تتحسسون من الهزل، فالكرونيكور اذا حريته مطلقة لا تقيده مواثيق مهنة او اخلاق صحافة، يمسح الارض بمن يشاء بالحق وبالباطل ولا يقيّده قيد من اخلاق او قانون، وفي نفس الوقت لا يعبّر عن وجهة نظر الوسيلة الإعلامية ظاهريا، وبالتالي هو يعبّر عن رأيه الشخصي، رغم ان حضوره الزمني قد يتجاوز في حجمه اضعاف حضور الصحافيين، وتنطبق عليه تلك العبارة الحيلة التي عادة ما تضعها الصحف والمجلات تفصّيا من المسؤولية القانونية :”ان الاراء الواردة لا تعبر عن الخط التحريري للمطبوعة”؟ وهي عبارة يعرف الصحافيون قبل غيرهم انها مجرّد حيلة قانونية شائعة، فالصحف والمجلّات لا تنشر من آراء الكتاب الا ما يتفق مع خطها التحريري، ويناسب مصالح القائمين عليها واصحابها.
التنسيب مطلوب جدّا عند تناول الظواهر، والتبعيض ضروري، ولهذا نقول بعض الكرونيكورات الذين استبدوا طيلة السنوات الماضية، كانوا غالبا جزء من صراع المصالح، وتعبيرا صادقا عليه. صراع مصالح بالمعنى المباشر وغير المباشر. صراع مصالح ايديولوجية وسياسية واقتصادية.
من حيث الشكل، كان بعض هؤلاء ساسة سابقين أو صحفيين تضرروا من تداعي مهنة الصحافة المكتوبة فوجدوا بديلا او تعويضا في المهنة الجديدة أو مدوّنين مهووسين يستمدون وجودهم من معارضة اي شيء وكل شيء.
أما من حيث المضمون، فهؤلاء كانوا في خدمة جماعات المصالح على أنواعها، وبشكل فجّ في كثير من الأحيان. ارتبطوا بلوبيات اقتصادية وسياسية وبأجندات واضحة محددة المعالم. حتى ان بعض البلاتوهات اصبحت موضوع تقاسم الكرونيكورات، على نحو تجد فيه جميع القوى المتصارعة من يمثّلها ويدافع عن وجهة نظرها وعمليا مصالحها. الكرونيكورات غير ملزمين بهذه النسبية التي اشرت اليها.
غالبا ما يتكلم بعضهم كأنبياء يقبضون على الحقيقة المطلقة. يطالبون الجميع بالتنسيب، ولكنهم لا ينسّبون الا قليلا. يمارسون سلطتهم بشطط لا حد له. يجلدون بلا رحمة ويرذّلون جميع النخب ويخرجون انفسهم كالشعرة من العجين. يحتكرون الوطنية. يزبدون ويرعدون دفاعا عن المصلحة العامة.
يبكون البلاد بحرقة ويغضبون لحرمتها بالحجج والارقام، ويهاجمون ويدافعون بحسب مزاجهم، ويضفون العصمة على البعض متى شاءوا وينزعونها عنه متى شاءوا. بدا الكرونيكور ضرورة لاصحاب التلفزيونات والإذاعات، سواء المرتبطون بمراكز النفوذ والمصالح، او أولئك الذين يوجههم الربح و”الاوديمات” (نسبة المشاهدة)، ولهذا فسوق الكرونيكورات اضحت رائجة، واضحى بعض الكرونيكورات نجوما تتهافت على استقطابهم البلاتوهات.
وكأي ظاهرة لها صلة بالنجومية، اصبحت القدرة على خلق الإثارة (البوز)، سواء بالصراخ المفرط او النزعة الهجومية المطلقة او الشخصنة او التفاهة أو زعم الحصول على وثائق سرية أو غيرها من الوسائل التي يمكنها المساعدة في استقطاب مزيد من المشاهدين والمستشهرين، هي سبيل الكرونيكور الناجح للحفاظ على موقعه ومكانته ومصالحه، والذي لا يجاري ذلك يغامر بفقدان دوره.
بالعودة الى أصل هذه المهنة، ثمّةَ اشارتان ضروريتان، الاولى الأصل الفرنسي لهذه المهنة (لست متأكدا للامانة من هذه المعلومة)، ولكن الممارسة الباريسية لهذه المهنة تبدو مختلفة تماما، سواء من جهة الالتزام بأخلاقية المهنة الإعلامية او من جهة احترام التخصصات، فالكرونيكور الفرنسي لا يفهم كنظيره التونسي في كل شيء.
الثانية ان الكرونيكور الرياضي كان اسبق في الوجود بالنظر الى حاجة المباريات الرياضية، خصوصا في حصص الاستراحة بين الأشواط، الى من يساعد المعلق على ملأ الفراغ، والكرونيكور الرياضي خلافا للكرونيكور السياسي غالبا ما يكون لاعبا او مدربا سابقا او صحفيا رياضيا، ليس له اجندة يريد تمريرها الا فيما ندر. الخلاصة، ان مهنة بهذه الخطورة والتأثير، لا يجوز ان تبقى بلا تعريف او ضبط معايير او اطر مهنية تضبط ممارستها. كان المغرب الشقيق خلال المرحلة الاستعمارية مقسّما الى مجالين..مغرب المخزن ومغرب السيبة.. ولا يعقل ابدا ان نجعل الاعلام ايضا مجالين.. “اعلام صحافي” و”إعلام كرونيكور”.
Comments