السوسيولوجيا السياسية المعاصرة .. العولمة والسياسة والسلطة / كتاب/
عرفت المؤسسات الأكاديمية عموماً والجامعات بخاصة، بتقسيمها المعرفة إلى أنظمة مختلفة ومتنوعة وهو ما صار يعرف بظاهرة التوزيع على دوائر (Departmentalization) فصار يقال دائرة أو قسم الفيزياء وقسم الكيمياء وقسم الفلسفة وهكذا.
غير أنه، وفي السنوات الأخيرة، نشأت ظاهرة جديدة لا تقول بالفصل المطلق بين أنظمة المعرفة بل تربط ما بينها ما أمكن الربط واقتضاه البحث الأكاديمي. فصرنا نتحدث الآن عن الكيمياء الفيزيائية أو الجغرافيا السياسية، وكذلك عن السوسيولوجيا السياسية التي هي عنوان كتاب السيدة كيت ناش (Kate Nash) الذي نحن بصدد الكلام عنه، فما هي السوسيولوجيا السياسية؟
السوسيولوجيا السياسية
تعني السوسيولوجيا السياسية، وبالمعنى الواسع، بالعلاقة بين السياسة والمجتمع. وتميزها في العلوم الاجتماعية يمثل في إقرارها بأن الفاعلين السياسيين بما في ذلك الأحزاب، ومجموعات الضغط ، والحركات الاجتماعية، تعمل داخل سياق اجتماعي أوسع. لذلك، فإن الفاعلين السياسيين لا بد لهم من أن يشكلوا البنى الاجتماعية
مثل الجنس، والطبقة، والقومية، وأن يتشكلوا بها، وهذه البني الاجتماعية تؤمن عدم تساوي النفوذ السياسي داخل المجتمع. وينجم عن هذا أن تصور السلطة هو تصور أساسي في السوسيولوجيا السياسية، حيث تعني السلطة (أو السلطان) قدرة الإنسان على تحقيق أهدافه، حتى عندما تكون هذه الأهداف متنازعة مع مصالح فاعل آخر.
لذا، فإن السوسيولوجيين السياسيين يعودون، وبصورة دائمة إلى السؤال الآتي: من هم الأفراد (والمجموعات) في المجتمع الحائزون على القدرة على تحقيق مصالحهم، وكيف تُمارس تلك السلطة وتؤسس؟ ولأن الدولة هي أقوى مؤسسة سياسية، فقد ركز العديد من السوسيولوجيين السياسيين على علاقة الدولة مع مواقع أخرى للسلطة داخل المجتمع. لذا، يمكن تعريف السوسيولوجيا السياسية بأنها درس علاقة السلطة المعتمدة تبادلياً بين الدولة والمجتمع المدني.
بعد هذا العرض العام للسوسيولوجيا السياسية، نتقدم الآن إلى التعريف بوجهة نظر المؤلفة ناش، فنقول، بادئ ذي بدء، إن ناش تميز بين نوعين من السوسيولوجيا السياسية على أساس علاقتهما بالدولة القومية ذات السيادة ودرجة هذه العلاقة. فالسوسيولوجيا السياسية القديمة كانت تعتبر الدولة القومية هي المركز الوحيد للسياسة، لذلك كانت الأحزاب والحركات الاجتماعية تضع برامجها في ضوء ذلك الاعتبار، وتناضل بغية التأثير في الدولة ومؤسساتها لتحقيق تلك البرامج سواء أكان التأثير من طريق الانتخابات الديمقراطية أو بالصراع الطبقي والاستيلاء على الحكم، تلك كانت حالة السوسيولوجيا السياسية القديمة أو التقليدية. وتجدر الإشارة إلى أن ناش تذكر أن “الأبوين المؤسسين للسوسيولوجيا السياسية هما کارل مارکس (Karl Marx) وماكس فيبر Max Weber) . غير أن الحال تغيرت. فمنذ الستينيات من القرن الماضي إلى يومنا، وبخاصة في أجواء مـا صـار يـعـرف بـظـاهـرة الـعـولمـة (Globalization)، تعرضت قوة الدولة القومية، كمركز وحيد للسياسة والسيادة، لأشكال الضعف والنقصان والتوزع، ناهيك عن التصدع ، فنشأت ، في هذه الحال الجديدة، حركات نسوية ومنظمات بيئية مثل منظمة السلام الأخضر (Green Peace) وغيرها، واتحادات سياسية مثل الاتحاد الأوروبي، وغير ذلك الكثير كان لها مطالب حقوقية جديدة. وعرفت هذه الحال الجديدة بظاهرة “التحول الما بعد الحداثي ” (The Postmodern Turn) تمييزاً لها عن الحال القديمة التي كانت تعرف باسم الحداثة (Modernity). فما هو “التحول الما بعد الحداثي ” ؟
التحول ما بعد الحداثي
يقدم المذهب الما بعد الحداثي نقداً محفزاً لجميع المشاريع النظرية، بما في ذلك الليبرالية والاشتراكية، التي تقدم أوصافاً كلية Holistic) للوجود الإنساني. وينتقد الما بعد الحداثيين، وبقسوة، قصص الميتا (Metanarratives)، وهي النظريات التي تزعم بأنها قادرة على تصوير اتجاه مستقبل المجتمع بتحليل حالة الإنسانية الماضية والحاضرة. وتصلح الماركسية أن تكون مثلاً عن ذلك ، وهي التي ترى أن الرأسمالية تحمل في حوضها خليفتها الشيوعية، التي ولدها الصراع الطبقي المجسّد في طبقة العمال العالمية. ويرى الما بعد الحداثيين أن مثل هذه الأفكار هي مجرد أوهام وأنها خطرة.
عوضاً. عن فردية الليبرالية السكونية، وجمعية الماركسية القمعية، يؤكد المذهب الما بعد الحداثي التصدع أو التشطي، والنسبية والتعددية وتناقض الهويات الذي غالباً ما يتواجد. فتفضيل لهوية واحدة، أو “حقيقة” واحدة مما يسمى حقائق معناه قمع ما عـداهـا من الأوضاع الأخرى. لذا، فإن قصص الميتا مثل قصة الماركسية لا يمكن أن تكون إلا توتاليتارية (كلية) ومنهزمة ذاتياً، ومثل مسألة الهوية ينظر الما بعد الحداثيين إلى مسألة السلطة، فيرون
السلطة متعددة.
وكما أكد فوكو (Foucault)، في كتاباته، السلطة موجودة في كل مكان في المؤسسات الاجتماعية واللغة وحتى في الأجسام نفسها، وظواهر عدم المساواة الاقتصادية متفشية في جسم كل واحد منا وأي واحد منا .
وبطريقة أخرى نقول، إن الفكرة المفيدة أن أشكال الخطاب التأسيسي لا تقدر أن تكون محلية ونسبية لجماعة إثنية، هي فكرة محورية لما بعد الحداثية. وقد أثار الما بعد الحداثيين الشك من طريق الإفادة بأن منتوجات الدراسات الإنسانية مثل التصورات ، والشروح، والنظريات، تحمل بصمات من انحيازات واضعيها ومصالحهم. ويمكن وضع ذلك الشك في سؤال من هذا القبيل : أتى للإنسان العارف بما له من مصالح وانحيازات، وبكونه يعيش في مجتمع معين، وفي مفصل تاريخي معين، ويشغل مركزاً اجتماعياً معيناً محدداً بطبقته، وجنسه، وعرقه، وميوله الجنسية، ووضعه الإثني والديني، أن ينتج، وهو مسربل بتلك الأوصاف، تصورات ، وشروحاً، ومعايير صدق تكون صحيحة، وبصورة كلية؟
الما بعد الحداثيين يلقون ظلاً من الشك على العلم عبر ربطه بمشروع الحداثة الغربية وبصراعات محلية حول الطبقة، والوضع الاجتماعي، والجنس والميول الجنسية، والعرق، وغيرها. وهذا الشك هو من جوهر المذهب الما بعد الحداثي.
وبالنسبة إلى الخطاب الذي يقول بالأسس، يقول الما بعد الحداثيين، إنه يكشف عن إيمان مزيف، ويرون أن إرادة الحقيقة هي إرادة القوة.
فالزعم بوجود أسباب كلية وموضوعية تجيز الخطاب الاجتماعي وتبرره، والزعم بأن الخطاب ينطق بالحقيقة، معناه إعطاء أفضلية للخطاب، ولأصحابه، ولبرنامجه. وما دام الاعتقاد عند الما بعد الحداثيين مفيداً أن أشكال الخطاب الاجتماعي إن إلا ممارسات اجتماعية قيد التشكل، مثلها مثل القوى الاجتماعية الأخرى، والحياة الاجتماعية والتاريخ، فإن إضفاء امتياز على الخطاب بوصفه صادقاً يضفي سلطة على قيمه الاجتماعية، وبخاصة أشكال القصص الاجتماعية الواسعة المتعلقة بالتطور والتي ينتجها المنظرون السوسيولوجيون، وأيضاً، أشكال الخطاب المتخصص الذي ينتجه الديمغرافيون (علماء السكان)، وعلماء الجريمة، والسوسيولوجيون المختصون بالتنظيم، وما شابه، كل هؤلاء، يشكل العالم الاجتماعي عبر خلقهم أطراً معيارية من أنواع الهوية العرقية والنظام الاجتماعي والوظيفة والجنسية والميول الجنسية، والقومية، وغيرها من الأنواع، وأيضاً أطراً مثقلة كلها بالسلطة الفكرية والاجتماعية للعلم.
فالخطاب الذي يحمل طابع المعرفة العلمية يعطي تصوراته المعيارية عن الهوية والنظام على هيئة سلطة ويشكل بالبرامج الاجتماعية التي تنتجها (أي المعرفة) أشكالاً من الخطاب. فالزعم باكتشاف لغة المجتمع الحقيقة يجرد النماذج المنافسة من الشرعية والمقبولية، وهي التي توصف، الآن، بأنها أيديولوجية.
Comments