الجديد

الصادرات التونسية .. حقائق صادمة

عماد بن عبد الله السديري

 من المؤشرات الأساسية التي ينبغي الاعتماد عليها لتقييم أداء اقتصادات دول العالم يبرز المؤشر الخاص بالصادرات. فالدول القوية والمزدهرة هي التي تمتلك اقتصادات مصدرة بشكل مكثف. فالانغلاق الاقتصادي والتركيز في تسويق وتوزيع السلع والبضائع في الأسواق المحلية فحسب لا يمكن أن يحقق الازدهار والرفاه لأي شعب. وهي حقيقة تدركها الدول الكبرى وجميع الشعوب الطامحة إلى تحسين أوضاعها وظروفها المعيشية. بل هي حقيقة قد أدركتها قرطاج منذ ثلاثة آلاف سنة تقريبا، وقد كلفتها تباعا الدمار والحرق.

بحسب البيانات الرسمية التونسية كما وردت في قاعدة بيانات المعهد الوطني للإحصاء وكما نقلها المرصد الأمريكي للتعقيد الاقتصادي، فإن تونس قد صدّرت من السلع والخدمات في العام 2018 ما قيمته 40.9 مليار دينار تونسي، أي حوالي 15.2 مليار دولار أمريكي. أما الواردات من الخارج، فقد بلغت 60 مليار دينار تونسي، أي ما يعادل 22.2 مليار دولار أمريكي. وهو ما يعني أن حجم العجز في الميزان التجاري قد بلغ 19.1 مليار دينار تونسي، أي حوالي 7 مليار دولار أمريكي. فهل بالفعل صدرت بلادنا هذه القيمة من الصادرات؟ وهل أن هذا الرقم يعبر بالفعل عن سلع وبضائع أنتجها الشعب التونسي واستفاد منها الاقتصاد التونسي؟

في الحقيقة، هذه ذات الرواية التي ترددها الحكومات التونسية وكذا بعض قواعد البيانات الوطنية والدولية منذ عقود وسنوات. وهي من بين أكبر المغالطات التي تعرضنا لها في تونس منذ 48 سنة بالضبط.  فبحسب دراسة مميزة باللغة الإنجليزية أنجزها فريق بحثي تونسي يتكوّن من الأساتذة ليلى البغدادي وسنية بن خذر، وحسن العاروري، وتحمل عنوان “البحث عن نموذج تنموي جديد لتونس: تقييم لأداء نظام الشركات الأجنبية”، فإن معظم الصادرات التونسية تستحوذ عليها شركات أجنبية تحوّل جميع أرباحها إلى الخارج حيث بلدانها الأصلية بعد أن تستفيد من حوافز كثيرة مثل الإعفاء الضريبي لمدة 10 سنوات واليد العاملة الرخيصة وباقة أخرى من التسهيلات المتنوعة. بحسب الدراسة التي اعتمدت على بيانات تونسية رسمية دقيقة، فقد بلغ متوسط صادرات الشركات الأجنبية العاملة في تونس والمرخص لها بشكل رسمي خلال الفترة الممتدة بين الأعوام 2002 و2014 حوالي 73.9٪ من إجمالي الصادرات التونسية. بل وثقت الدراسة أنه في العام 2014 بلغ متوسط صادرات الشركات الأجنبية العاملة في تونس 80% من إجمالي الصادرات التونسية إلى الخارج. وهو ما يعني أن حجم صادراتنا الوطنية التي تنتجها الشركات التونسية المحلية يتأرجح بين 30 و20% لا غير. وهو ما يفسر إلى حد بعيد الضعف والتخلف التنموي الشامل الذي تغط فيه بلادنا منذ عقود طويلة، إذ إنها إلى اليوم لا تمتلك عمليا وعلى أرض الواقع شركات تونسية وطنية مصدرة بشكل مكثّف ولها تواجد دولي على نطاق موسع، رغم ما يتميز به النسيج الاقتصادي في تونس من تنوع قل مثيله إقليميا. وهي حقيقة قد وثقها تقرير مجلة فوربس في العام 2020 بشأن الــ2000 شركة الأكبر في العالم، إذ بيّن أنه لا توجد أي شركة تونسية تتجاوز مبيعاتها في العام الواحد 1 مليار دولار أمريكي، أي أن الشركات التونسية التي يُفترض أن  تكون المحرك الأساسي للاقتصاد وللتشغيل والـمَصدر الأهم للضرائب ولتمويل ميزانية الدولة لا قيمة لها لا على المستوى الوطني ولا على المستويين الإقليمي والدولي بسبب ضعف إنتاجيتها وتنافسيتها وربحيتها مقارنة بالشركات الأجنبية.

في الحقيقة، بحسب قاعدة بيانات المعهد الوطني للإحصاء، فقد بلغ في العام 2014 عدد الشركات التونسية من جميع الأحجام 680,241 شركة (أكثر من 680 ألف شركة)، منها 653,183 شركة تونسية وطنية (حوالي 653 ألف شركة تونسية وطنية – Onshore). أما عدد الشركات الأجنبية (Offshore) فلم يتجاوز 27,058 شركة منتصبة في تونس. وهو ما يعني أن 95.86% من الشركات العاملة في تونس هي شركات تونسية وطنية. أما باقي الشركات الأجنبية، فإنها لا تمثل إلا 4.14% من إجمالي الشركات المرخص لها والناشطة في بلادنا. ورغم محدودية عدد الأجنبية (شركات الأُوف شور)، إلا إنها قد استحوذت في العام 2014 على حوالي 80% من الصادرات الخارجية التونسية. وهو ما يكشف عن حقائق صادمة كثيرة تخص الضعف الشديد الذي يعاني منه  الاقتصاد التونسي، وبخاصة ما يتعلق بتدني القدرات التنافسية للشركات التونسية الوطنية في مجال الإنتاج والتصدير واقتحام الأسواق العالمية، وضعف أرباحها والفوائد التي تتحقق لتونس وللشعب التونسي تباعا، واستحواذ الشركات الأجنبية ذات الجنسيات الأخرى على النسبة الأكبر من الصادرات ومن الأرباح المتأتية منها وتحويلها جميعها إلى دولها الأصلية، والاستغلال الممنهج والمحزن لليد العاملة التونسية التي يتم استنزافها ثم منحها رواتب شهرية متدنية جدا بحسب المعايير الأوروبية. بل بيّنت الدراسة أنه لا يتم حتى تكوين اليد العاملة التونسية وتطوير أدائها، باعتبار أن الشركات الأجنبية تركز في الصناعات غير الذكية وذات العمالة المكثفة والبسيطة.

وعليه، فمن المهم جدا أن ندرك حجمنا الحقيقي في هذا العالم. وعلى نحو خاص، من الأهمية بمكان أن نقرأ البيانات الاقتصادية التي تصدر عن الحكومة التونسية أو بعض الجهات الدولية بالكثير من الحذر، خاصة وإنه قد تم توظيفها لسنوات وعقود بشكل سيئ، من أجل إخفاء حقيقة الفشل المخيف للحكومات التونسية منذ الاستقلال في بناء اقتصاد تونسي وطني قوي وقادر على الاستجابة للطموحات المستمرة للشعب التونسي. فعلى سبيل المثال، باعتماد ذات المنهجية البحثية التي طبقها الفريق البحثي التونسي في الورقة البحثية المشار إليها آنفا يتبيّن أن قيمة الصادرات التونسية الوطنية (التي تنتجها شركات تونسية لحما ودما) في العام 2018، أو في أي عام آخر، قد كانت أقل بكثير من قيمة الصادرات التونسية التي تنتجها بعض الشركات الأجنبية المنتصبة في تونس. بل إنها تمثل مبالغ زهيدة وتافهة ولا يمكن إلا أن ترسخ التخلف والفقر والانحطاط والخضوع الدائم لهيمنة بعض الدول الأجنبية أو اللوبيات الوطنية التي تخنق الاقتصاد التونسي وتمنع توسعه ونموّه.  فبحسب قواعد بيانات كل من المعهد الوطني للإحصاء والمرصد الأمريكي للتعقيد الاقتصادي والبنك الدولي كما تم رصدها في العام 2020، فقد بلغ إجمالي الصادرات التونسية من السلع والخدمات في العام 2018، على سبيل المثال، حوالي 15.2 مليار دولار أمريكي. وبتوزيع هذه الصادرات بين الشركات الوطنية والشركات الأجنبية، بحسب منهجية الفريق البحثي التونسي، يتضح أن حجم الصادرات الأجنبية ذات المنشأ التونسي (التي أنتجتها شركات الأوف شور) قد بلغت 11.23 مليار دولار أمريكي. أما الصادرات التونسية الوطنية (التي أنتجتها شركات تونسية وطنية)، فلم تتجاوز 4 مليار دولار أمريكي. وهو ما يعني أن الأرباح التي تحققها الشركات الأجنبية والتي يتم تحويلها جميعها إلى دولها الأصلية، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، أكبر بكثير وكثير من المبالغ البسيطة التي تحصل عليها الشركات التونسية، والتي لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تبني دولة قوية ومتقدمة أو أن تنقذ الشعب التونسي المغلوب على أمره من الفقر الممنهج الذي يتخبط فيه منذ عقود وقرون. بل تكشف هذه البيانات عن وجود خلل خطير في الميزان التجاري، حيث إن ما نستورده من بعض الدول الأوروبية يتجاوز بكثير وكثير من تصدرها شركاتنا الوطنية إليها، رغم الادعاء الماكر لبعض الدول الأوروبية بأن الميزان التجاري يميل بشكل مستمر للجانب التونسي.  كما إن هذه الأرقام والبيانات والتحاليل تكشف عن العبث المؤلم الذي مارسته الحكومات التونسية خلال السنوات والعقود الأخيرة، إذ من غير المنطقي أن تدخل تونس في اتفاقيات شراكة مع دول أجنبية ذات شركات عملاقة وتنافسية هائلة في حين إن الشركات الوطنية التونسية تتخبط في الضعف والتخلف والعجز. بل إن مثل هذه الشركات لا يمكن إلا تسحق الاقتصاد التونسي وتضعف الشركات الوطنية الضعيفة بطبعها. وهو ما حصل مع دول الاتحاد الأوروبي ومع تركيا كما توثقه بعض البيانات.

على أية حال، بالتعمق أكثر في تحليل نوعية الصادرات التونسية الوطنية الموجهة إلى الخارج تتجلّى باقة أخرى من الحقائق الصادمة التي تؤكد أننا ننتمي إلى دولة فاشلة اقتصاديا ومتخلفة، طولا وعرضا، لأنها غير منتجة وضعيفة وتفتقد للذكاء اللازم لتتقدم أو تزدهر. فالصادرات التونسية التي تنتجها شركاتنا الوطنية تعتمد بالأساس على استخراج وتحويل منتوجات طبيعية توفرها بلادنا منذ عقود طويلة وحتى منذ آلاف السنوات، إذ صدرت تونس في العام 2018 ما قيمته 1.15 مليار دولار أمريكي من البترول والبترول المكرر والملح والإسمنت والجبس والرخام والرمال. كما صدرت ما قيمته 789 مليون دولار أمريكي من زيت الزيتون و562 مليون دولار أمريكي من بعض المواد الكيميائية (مثل الفسفاط ومشتقاته) و455 مليون دولار أمريكي من الفواكه والغلال (تمور وقوارص…) و207 مليون دولار أمريكي من المنتوجات الحيوانية و142 دولار أمريكي من المواد الغذائية. وبطرح قيمة هذه الصادرات القائمة على استغلال بعض الثروات الطبيعية من إجمالي الصادرات التونسية التي تنتجها الشركات المحلية/الوطنية (حوالي 4 مليار دولار أمريكي لا غير) يتبيّن عمليا أن الصناعة التونسية، وبخاصة في المجالات ذات الربحية المرتفعة، مثل التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي والمعدلات والآلات والإلكترونيات، لا وجود لها ولا تزال ضعيفة جدا وعاجزة تمام العجز عن اقتحام الأسواق العالمية. وهو ما يتناقض مع الكم الهائل من الأكاذيب والمغالطات التي روّجت لها الحكومات التونسية منذ عقود طويلة.

لقد اهتممت خلال السنوات القليلة الماضية بقضايا تخص التعليم ورأسمالنا البشري على نحو خاص. وقد تبيّن بالأرقام والأدلة والبراهين أننا شعب متخلف معرفيا وبشريا بسبب سياسات تربوية رسمية تسحق الشعب التونسي وترسخ الجهل والتخلف فيه. ثم انتقلت سعيا وراء الحقيقة إلى التعمق في المسائل الاقتصادية والتنموية. فتبيّن لي بشكل صادم أن ما ينطبق على التعليم التونسي ينطبق كذلك على الوضع الاقتصاد التونسي. والغريب في كل هذا أن الأرقام والبيانات في السياقين الاقتصادي والتربوي تتشابه إلى حد بعيد. فمثلما وثقت الورقة البحثية المشار إليها آنفا بأن أكثر من 70% الصادرات التونسية إلى الخارج تستحوذ عليها شركات أجنبية منتصبة في تونس، فقد وثقت كذلك منظمة اليونسكو والبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي، وبشكل مستمر، أن نسبة التلاميذ التونسيين الذين يفتقدون إلى الحد الأدني من الإتقان في القراءة والرياضيات والعلوم تتجاوز كذلك الــ70%… هكذا يريدوننا أن نكون: شعب متخلف وفقير معرفيا واقتصاديا، حتى يستمر استعبادنا ويتواصل استغلالنا، من الداخل ومن الخارج. جيلا بعد جيل.

عماد بن عبدالله السديري

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP