العتبة و الاسعاف الانتخابي
المهدي عبد الجواد
جدل كبير، و احتقان برلماني يُرافق النقاش الدائر حول مراجعة القانون الانتخابي، و خاصة في النقطة المتعلقة بــ”العتبة الانتخابية”، إذ يقترح مشروع القانون الجديد ان تكون في حدود الــ 5 في المئة، اقتراح تُزكيه “الأغلبيات” الحزبية، و ترفضه “الأقليات الحزبية” التي ترى فيهن التفافا على مبدأ التنوع الديمقراطي، على أساس انه يحرم الأحزاب “الصغيرة” و بعض “التيارات السياسية” من حقها في أن تكون ممثلة في رحاب السلطة التشريعية.
تابعت باهتمام حجاج الرافضين لمبدأ العتبة، فاستحضرت صورة التلميذ الكسول، غير الواثق بقدراته. فالحجج المقدمة في رفض العتبة، تُذكرني بحال بعض التلاميذ، من الاقسام النهائية/ الباكلوريا، الذين يُبادرون منذ الحصة الأولى بالتساؤل على شروط النجاح بالإسعاف. و الحال ان عاما دراسيا كاملا ما زال أمامهم للاجتهاد و النجاح باستحقاق.
إذا كانت العتبة الانتخابية، ستمحو من الساحة “أحزابا” و تيارات سياسية، فليكن، فذلك منطق الحياة. فزوالها يعني أنها لا تُشكّل تعبيرة حقيقية و حيّة على تفاعلات اجتماعية عميقة، إذ لا تعدو ان تكون ظواهر زائلة. الديمقراطية هي بشكل من الأشكال، ممارسة سياسية لنظرية النشوء و الارتقاء، البقاء للأصلح القادر على توريث “الصفات المكتسبة” التي تمنحه القدرة على التأقلم مع المستجدات. من الممكن ان تبدأ ضعيفة، و لكنها بالنضال و التشبث بالحياة، و بــ “الكد و الضنى و رشح الجبين” تُرسّخ أسباب وجودها، تفتك موقعها و لا يمنّ به عليه أحد. الديناصورات و الكائنات الأحفورية المحنطة، زالت لأنها لم تستطع – رغم قوتها الظاهرة – التأقلم مع التحولات، مثلها أيضا مثل الكثير من “الكيانات السياسية” التي لم تُدرك حجم التغيّر في تونس ما بعد 14 جانفي، و تيارات سياسية ظلت متكلسة المقاربات و الرؤى السلفية، في أشكالها المختلفة، الدينية و الثورية و الحداثية و اللبرالية.
لنكن خلدونيين، فالأحزاب كالدول لها دورات، تزول بها ومعها. و الانتخابات هي شكل من أشكال الفرز الطبيعي السلمي. في الديمقراطيات يقوم التنافس بين أحزاب قادرة على ربح الانتخابات و تشكيل أغلبيات للحكم، تُمارسه عبر تطبيق برامجها و يُراقبها المعارضون و الأقليات و المجتمع المدني، و يُحاسبها الشعب عبر الانتخابات.
ثمة أحزاب كبيرة، يُحكم عليها بالموت السياسي انتخابيا، أين حزب التكتل في انتخابات 2014، و قد كان الحزب الثالث سنة 2011؟ أين المؤتمر من اجل الجهورية و قد كان الحزب الثاني سنة 2011؟ اين الحزب الديمقراطي التقدمي؟
قد يتعلل البعض، بان العتبة تمنع المستقلين من المشاركة، و تُقلّل من فرصهم في الفوز ببعض المقاعد. نعم فليكن. لأنه لا معنى “للمترشحين المستقلين” في الديمقراطيات، اللهم أن يكون المترشّح المستقلّ تعبير واضح على تيّار اجتماعي عميق، و على موقف شعبي من “التشكيلات الحزبية” و من النخب السياسية المُهيمنة مثلما كان ماكرون في فرنسا او ترامب في امريكا او بعض مرشحي اليمين و اليسار الشعبوي، اختيارهم كان موقفا رافضا للسائد الحزبي و السياسي. ان المترشحين المستقلون الجديون سينجحون رغم العتبة، العتبة التي ستقوم بمنع المغامرين، و الباحثين على الشهرة من الترشح، و ستقوم بالرفع من مستوى و قيمة العمل الحزبي و السياسي، باعتبار التنظم الحزبي أحد أرقى أشكال التنظم من اجل خدمة الصالح العام، و ليس مجرد صور تُلصق على حيطان المدارس من أجل الوجاهة و “البزنس السياسي” او “بطالة مُقنعة” لبعض النواب أفضل البواقي، فُتات الاصوات.
ان تونس الثورة، و الشعب التونسي يستحقان أكثر من ان يكون برلمانهما ممثلا بنواب لم يحصلوا على أكثر من 300 صوت، او الفي صوت و حتى 3 آلاف صوت…إذن نعم للعتبة، و لا عزاء “للكسالى الحزبيين” و طالبي الإسعاف الانتخابي. و ما على الأحزاب “الصغيرة” غير البحث على الطرائق الكفيلة بجعلها قوية و قادرة على الفوز بالانتخابات. فالأحزاب لا تُؤسّسُ من اجل بعض المقاعد في البرلمان بل من اجل أغلبية تحكم. و لتنصهر الأحزاب المتشابهة، و لتدخل في جبهات و تحالفات، و لتتجاوز “الزعامات” أمراضها و نرجسياتها، و لتُغلق دكاكينها الحزبية، و لتدخل في مشاريع حزبية شعبية و جماهيرية كبيرة مُتجذرة في واقعها و قادرة، ليس على تجاوز عتبة الــ 5 في المئة فقط، بل قادرة على إقناع أغلبية الناخبين ببرامجها، و من ثمة قادرة على الحكم. ان الذي يدعي انه بديل للحكم و جاهز له، و من يدعي الصدق السياسي و النزاهة، و يتهم خصومه بالفساد لا يخشى، ضمير الشعب التونسي الذي سيُقرّر الأحق بتمثيله. تلك إرادة التونسيين يمنحونها لمن يختارونه لتمثيلهم. فالتمثيل الانتخابي استحقاق و ليس إسعافا.
Comments