العدالة الانتقالية : غابت "المصالحة" وحضر "الانتقام" !
خديجة زروق
صاحب عمل هيئة الحقيقة والكرامة جدل كبير، سواء أثناء فترة اشتغالها، أو بعد تقديمها لتقريرها النهائي، ليس بسبب الاعتراض على “المصالحة”، كخيار لتجاوز سلبيات الماضي، والأهم التأسيس للمستقبل، بل أن مرد هذا الجدل يعود لفشل الهيئة في ادارة ملف حساس ومحل خلاف، يفترض الاشراف عليه من قبل شخصيات اعتبارية ليست محل تجريح من أي جهة، وكذلك منهجية وبيداغوجية في تحقيق هدفها النبيل، المتمثل في تحقيق العدالة الانتقالية، على قاعدة المصالحة لا الانتقام.
هناك انتقادات كبيرة وجهت لعمل هيئة الحقيقة والكرامة، وسط ما يشبه الاجماع، على فشل مسار العدالة الانتقالية، الذي يرى البعض أنه تحول الى عدالة انتقامية، وبالتالي فوت على تونس، وعلى الانتقال الديمقراطي، فرصة المصالحة الوطنية، التي هي أساس بناء المستقبل.
بعد نهاية أعمال الهيئة وتقديمها لتقريرها للرؤساء الثلاث ونشره للعموم، من الطبيعي أن نطرح السؤال التالي: هل تحققت العدالة الانتقالية ؟ أم أن المسار ازداد تعقيدا بل أصبح “ملغما” بعد اقرار بعث دوائر مختصة للعدالة الانتقالية أحيلت لها ملفات غير مستوفية الشروط والتدقيق؟
اليوم نلاحظ أننا أمام مزيد تعميق جراح الماضي، بعد نشر الهيئة لألغام جديدة في مسار العدالة والمصالحة، بعد التنصيص على بعث دوائر جنائية متخصصة، ستخلق ضحايا جدد، فضلا عن كونها ستدخلنا في فوضى قانونية وتجاوز لما جاء به دستور 2014. وقد صاحب هذا الوضع الجديد، تصاعد “الاتهامات” التي تشكك في ادارة الهيئة، خاصة الجانب المالي، وذلك بعد نشر تقرير دائرة المحاسبات، الذي تضمن الاشارة الى خروقات، يمكن أن تصل “حد الفساد”.
الثابت أنه وبكل موضوعية، هناك من يعتبر أن الهيئة – وبرغم كل الامكانيات التي وضعت لفائدتها – ، لم توفق لا في كشف الحقيقة، ولا في اعادة الكرامة للمضطهدين والمظلومين، بل في المقابل أنها صنعت “ضحايا جدد”، من خلال تلطيخ أعراض البعض وتدنيسها، دون حجة أو دليل، ونعني هنا الملفات المحالة – دون تمحيص وتدقيق – على الدوائر الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية، والتي اعتبرها البعض ترتقي للزج بالقضاء العدلي في متاهات هو أصلا في غنى عنها.
بحسب عديد المختصين في القانون، فان الدوائر المتخصصة هي في حكم الاستثنائية ولم تحترم حتى الاجراءات الواردة في قانون العدالة الانتقالية لسنة 2013 المتعلق بالعدالة الانتقالية، الذي يقتضي البحث والتدقيق في مستوى هيئة الحقيقة والكرامة، وهذا لم يقع في أغلبية الملفات المحالة للدوائر الجديدة، خاصة بعد انتهاء عهدة الهيئة، وهو ما جعلها تعمد الى احالة عشرات الملفات دون أي بحث أو تمحيص، مثلما ينص على ذلك القانون، وهو ما يعد خرق واضح لقانون 2013، كما أنها مخالفة لأحكام الدستور التي تنص على مبدأ أساسي وجوهري في المحاكمة الجزائية، على درجتين ( ابتدائي واستئنافي)، وفي الدوائر المتخصصة، هناك درجة واحدة، وهو ما يتعارض مع أحكام الدستور وحقوق الدفاع، والمنظومة الجزائية التونسية برمتها.
كما أن الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية لا تطبق المبادئ القانونية المعروفة، وهي عدم رجعية القانون الجزائي، وسقوط العقوبة بمرور الزمن، وعدم محاكمة نفس الأفعال مرتين، فهي لا تعترف بهذه المبادئ كلها.
وفي محاولة للتدارك، صرح بعض أعضاء الهيئة أنه يمكن الرجوع للاستئناف، الذي يعني الرجوع للعدالة العادية، أي الى المنظومة القانونية العادية، التي تمنع محاكمة الفرد مرتين لنفس الأفعال، وتطبق مبدأ سقوط العقوبة بمرور الزمن، ومبدأ عدم رجعية القوانين الجزائية، والتي تعتمد أيضا على التقاضي على درجتين مع التعقيب ( والكل يعلم أن محكمة التعقيب مهمتها حسن تطبيق القانون من طرف المحاكم الابتدائية والاستئنافية)، ومما تقدم فإننا أمام أزمة قانونية ودستورية وحقوقية وأيضا أخلاقية.
الان وهنا، يتضح أن هيئة الحقيقة والكرامة، لم تتوصل الى تحقيق المصالحة، بل أنها تحولت الى عدالة انتقامية، من خلال خلقها لمظلومين أو ضحايا جدد، فضلا عن كونها في مخالفة صريحة مع مبادئ الدستور والقانون الجزائي التونسي، وبالتالي فانه وفي المحصلة وبعد أكثر من أربعة سنوات من عمل الهيئة، لم ننجز عدالة انتقالية، ولم ننجز مصالحة وطنية، والهيئة التي كلفت بهذه المهمة أصبحت هي نفسها محل تتبع قضائي لأمام القطب القضائي والمالي، على خلفية ما ورد في التقرير الأخير لدائرة المحاسبات.
وفي هذا السياق، اعتبرت عضو هيئة الحقيقة والكرامة ابتهال عبد اللطيف في تصريح لجريدة المغرب في عددها الصادر اليوم الخميس 9 ماي 2019، أنّ “تقرير دائرة المحاسبات كشف عن ما إعتبرته ”رأس جبل الجليد فقط”، قائلة “الفريق الرقابي لم يطلع على كل الوثائق المطلوبة بسبب تضييق الهيئة على أعوانها وأعضائها حتى لا يتواصلوا مع دائرة المحاسبات”.
وأكّدت أنّ “عمل الهيئة يجب أن يخضع لرقابة أعمق وأشمل وسيتبيّن حينها أنّ الخروقات أكبر بكثير ممّا ورد في التقرير”، حسب تعبيرها.
وقالت إبتهال عبد اللطيف إنّ “هناك شبهات في عمل لجنة التحكيم والمصالحة تتجاوز تضارب المصالح، ويمكن أن تصل حدّ الفساد”، الأمر الذي دفعها إلى الإستقالة نهائيا من اللجنة في 11 ديسمبر 2018.
ولعل فشل مسار العدالة الانتقالية الذي انتهى الى محاولة لاقحام القضاء العدلي من خلال بعث دوائر متخصصة أحيلت لها ملفات غير مكتملة هو الذي يفسر تداعي القوى السياسية الفاعلية والرئيسية الى ضرورة الذهاب نحو مصالحة وطنية شاملة، وذلك بغاية استكمال مسار العدالة الانتقالية، وانقاذه مما تردى اليه في زمن هيئة الحقيقة والكرامة.
Comments