العلاقات التونسية القطرية بعيدا عن ضجيج الأيديولوجيا!؟
بقلم: د. خالد شوكات*
يحلّ الأمير تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني ضيفا على تونس في زيارة رسمية تمتد ليومي 24 و25 فيفري 2020، كما ورد ذلك في بلاغ لرئاسة الجمهورية، وستكون الاولى من نوعها في ولاية الرئيس قيس سعيّد، لكنها ليست الاولى في عهد الامير القطري الشاب الذي سبق له زيارة بلادنا عديد المرات، وتربطه بها وشائج قربى منذ كان صبيا، وقد حظي بتقدير واضح زمن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، كما ان لتونس علاقات اخوة وتعاون محترمة ومقدّرة منذ استقلال قطر عن المملكة المتحدة سنة 1971،
وكان للكفاءات التونسية حضور بارز متنامي في مشروع التقدم القطري، مثلما كانت للاستثمارات القطرية مكانة في الدورة الاقتصادية التونسية، وما هو مأمول من هذه الزيارة ان تعزز علاقات التعاون والتكامل في الاتجاهين بين بلدين تربطهما اواصر الاخوة العربية والإسلامية، بعيدا عن ضوضاء الأيديولوجيا المقيتة وصخب الجدل السياسي العقيم الذي تحوّل خلال السنوات الاخيرة الى احد اهم معوّقات بناء سياسة خارجية فاعلة ومفيدة لمشاريع التنمية خاصة وللمصلحة الوطنية عامة.
ولعل اهم ما يجب ان نتحرّر منه كنخب تونسية، في قراءة هذه الزيارة تحديدا، والعلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين عموما، جملة من المحدّدات الفاسدة التي غالبا ما افضت الى احكام سلبية ظَالِمَة، وتسبّبت في عرقلة العديد من المشاريع المشتركة الممكنة والتوجهات الواعدة ذات الافاق الاقتصادية والتنموية الرحبة، خصوصا في المستويين الاقليمي والدولي، ومن هذه المحدّدات:
1/ تمسّك البعض بمعارك الوكالة المرتبطة بحرب المحاور الاقليمية، بينما تقتضي المصلحة الوطنية النأي ببلادنا عن ذلك تماماً، فقد حرص الرئيس السابق الباجي قائد السبسي مثلا على علاقات تونسية قطرية متطورة رافضا ربط هذا التوجه باي اشتراطات إقليمية او دولية لا تتفق مع مبدأ السيادة الوطنية من جهة، ومقتضيات الانتماء المشترك للامة العربية الاسلامية والتزامات الاخوة المستوجبة من جهة ثانية.
2/ نظرة البعض الاستعلائية غير المقبولة، خصوصا لكل ما هو مشرقي، انطلاقا من نظرة دونية للذات واحتقار لها، واعتقاد بان كل ما هو إيجابي يجب ان يأتينا من الغرب، وان المشرق لا يجلب لنا الا الشرور، وهي نظرة ذات جذر استعمارية تحرسها جماعات بقايا الاستعمار والفرنكوفيلية المتغطرسة، وتتنافى كلّياً مع الحقائق الواقعية التي حوّلت نظر العقلاء الى تجارب النمو الآسيوية، ومن بينها بعض تجارب اشقائنا في الخليج العربي، التي فرضت نجاحاتها حتى على كبار الدول الأوربية، تتنافس اليوم من اجل جذب استثمارات هذه الدول مثل قطر، التي تتحرك صناديقها السيادية بكل قوة وفاعلية في عواصم هذه البلاد الغربية، بينما يعارض بعضنا تحت وطأة العقد الأيديولوجية المتهافتة اي دور لها في اقتصادنا الوطني الذي هو احوج ما يكون لاستثمارات الاشقاء قبل ديون وقروض وارتهانات الاصدقاء.
3/ تجاهل نجاحات الاشقاء، ومن بينهم الاخوة القطريين، خلال العقود الثلاثة الاخيرة، في عديد المجالات التي يمكن ان تخلق فرصا للتعاون والتكامل والعمل الاقليمي والدولي المشترك، من منطلق غرور لا دعائم له وعناد ليس بمقدوره تجاوز المعطيات الواقعية، وهو ما قد يفوّت على بلادنا فرصا نوعية وكمية لتغيير واقعنا وتوجهاتنا المستقبلية، من قبيل الضجة التي احدثت حول شراكة محتملة بين الخطوط التونسية والخطوط القطرية، وهي شراكة مطلوبة تبحث عنها كبريات الخطوط الجوية العالمية، في ظل المتغيرات الدولية التي تقتضي التكتل والتجمع وإقامة شبكات واسعة قادرة على المنافسة في جودة الخدمة والسعر والوجهات، فالأمراض الأيديولوجية التي يعاني بعضنا منها لم تحل مثلا دون تحول الخطوط القطرية الى واحدة من اهم شركات الطيران في العالم، وهو الامر الذي لا يثيرنا عندما تسعى اليه شركات أمريكية او فرنسية او ألمانية او حتى صينية، فيما يتحول لدينا الى معضلة حين يحرزه بعض اشقائنا.
4/ سعي البعض الى تصوير علاقاتنا مع اشقائنا في العالمين العربي والإسلامي، وكانها حدثٌ جرى بعد الثورة، او نتيجة سياسات اعتمدتها حكومات الترويكا او النهضة، وهو ما يجانب الصواب تماما، فهذه العلاقات تاريخية عاشت اهم طفرة لها في ظل حكومة الراحل الاستاذ محمد مزالي، الذي كان اول المنتبهين الى أهمية تنويع الشراكات الاقليمية والدولية لتونس، وافضل الاليات لاستكمال الاستقلال الوطني وتجسيد التزامات العمل من اجل وحدة الامة وتكاملها الاقتصادي وتضامنها السياسي، وبالتالي فان هذا الإصرار على هذه الثنائية الوهمية لا يمكن ان يصب الا في صالح القوى التي لا ترى الا طرفاً وحيدا بمقدورنا الاعتماد عليه، فيما الأطراف متعددة وفي مقدمتهم أشقاؤنا العرب والمسلمون
5/ تشبّث البعض بقراءة انتقائية لمسار العلاقات الاقليمية والدولية، يحجب استخلاص الدروس والعبر الجدية والوصول الى الحقائق العملية الموثقة بالارقام والاحصائيات والموثوقة بمصادرها ذات المصداقية، فالاستثمارات او المساعدات او القروض او الودائع القطرية من جهة، واعداد العمالة التونسية في قطر خلال السنوات الاخيرة من جهة اخرى، مسائل يجب إخضاعها للتقييم الموضوعي والعلمي، بعيدا عن التلاعب الايديولوجي او التوظيف السياسوي او الوهم العقائدي، وهو ما يمكن فعله في تقييم علاقاتنا مع سائر الاشقاء بما في ذلك أولئك الذين يحاصرون الدوحة اليوم ظلماً وقد يراجعون سياساتهم العدائية تجاهها في اي لحظة، فهل يعقل ان نأسر علاقاتنا مع اشقائنا في اطر الأزمات العابرة والتوتّرات الزائلة، ام نربطها بالتعاون لما فيه خير الوطن والامة والانسانية.
ان تونس في أمس الحاجة الى اعادة بناء سياستها الخارجية عاى نحو يستجيب لمتطلبات طموحها الاقتصادي والتنموي في التوجه نحو افريقيا والأسواق الجديدة في اسيا وأمريكا اللاتينية، ولعل شراكة في مجالات الغاز والنفط والطيران والبنوك والتأمين والنقل البحري والصناعات الغذائية وغيرها من القطاعات الحيوية، بمقدورها المساعدة في هذه العملية وتحقيق نتائجها المرجوة وفوائدها المنتظرة.
وما امنت به دائما ان مدرسة الواقعية السياسية والبراغماتية الاقتصادية كانت اكثر افادة لبلداننا من العنتريات الايديولوجية والاستعراضات الخطابية والهواجس الهوياتية التي جعلتنا اسرى القرن العشرين بينما يفترض ان نكون ابناء هذا القرن المختلف.
*كاتب ووزير سابق
Comments