العنف المسلط على النساء…طراوة الشكل و عنف المضمون
هشام الحاجي *
تنبذ النزعة الانسية العنف بكل تجلياته، و تعتبر القضاء عليه من اوكد مهامها . و غالبا ما يمثل العنف المسلط على النساء محور الاهتمام الاساسي بوصفه “البؤرة” التي تتكثف في صلبها كل اشكال العنف لان العنف الذي يستهدف النساء يعتبر الى حد كبير مؤشرا على نزوع الى ممارسة العنف صلب المجتمع. و تؤكد بعض الارقام الخاصة بالمجتمع التونسي هذا التلازم . ذلك ان نصف نساء تونس تقريبا قد تعرضن للعنف و لو مرة واحدة في حياتهن . و ما يقارب نصف نساء تونس اللواتي تتراوح اعمارهن بين 18و 64 تعرضن للعنف . و العنف مادي و جسدي و معنوي و جنسي و رغم اختلاف النسب بين صنف و اخر فان الارقام دالة و خطيرة و تدعو الى محاولة فهم اسباب هذه الظاهرة دون السعي لتقديم قراءة منغلقة لان ذلك قد يمثل شكلا من اشكال ممارسة “عنف الموقع”.
العنف ضد المرأة .. مفارقات المجتمع التونسي
من المهم محاولة تفسير العنف المسلط ضد المرأة من خلال التوقف عند ما يمكن اعتباره “المفارقات الاساسية للمجتمع التونسي” . و من اهم هذه المفارقات اننا نقدم خطابا “متخيلا ” عن مجتمعنا يركز على تاصله في “الحضارة ” و يتعمد تجاهل ما عرفه مجتمعنا من عنف سواء في تاريخه القديم او الحديث و هو ما خلق طبقات بالمعنى الاركيولوجي من العنف و العدوانية و من الخشية و التوجس من الاخرين ( الاختيال ..الاغتياب..الغورة…) و هذه العدوانية الهيكلية المتجهة نحو الاخر عادت اليوم بقوة في ظل تراخي قبضة الدولة التي ساهمت في “كبتها ” و “السيطرة عليها”.
في العنف السياسي
و هناك ايضا تأثير العنف السياسي الذي نختلف في تفسير درجة ممارسته و في محاولات تبريره و لكنه يمثل سمة من سمات الحياة السياسية في تونس منذ الاستقلال الى حد يومنا هذا. لقد مورس العنف السياسي باسم بناء الدولة ثم باسم الحفاظ على الحداثة و اخيرا باسم الثورة. ما هو مؤكد ان المجتمع التونسي لم يعرف حالات عنف سياسي و مجتمعي حدية كتلك التي عاشتها مجتمعات عربية اخرى و لكن ذلك قد شكل سببا من اسباب “استسهال” العنف لأننا لم ننظر اليه كعدو يهددنا بل كحادث “عابر” و”زائل” يمكن “قبوله” و التعايش معه و هو ما ادى الى انتشار خطاب “تبرير العنف ” بجميع اشكاله سواء اتخذ شكلا جنسيا او عنصريا او دينيا.
في جذور العنف ضد النساء
يتغذى العنف المسلط على النساء ايضا من عدم وضوح اطر و هياكل الانتماء و هو ما يخلق “تمزقا” و تناقضا بين الفردية و الجماعية و قد كشفت بعض عمليات سبر الآراء ان الانتماء الجماعي في بعده الوطني لا يعني شيئا لخمسين بالمائة من الشباب التونسي . و فقدان الاحساس بالانتماء الوطني ساعد على بروز حالة “نكوص و انغلاق ” الى اطر انتماء ما قبل “وطنية ” .
فثلث الشباب التونسي يعرف انتماءه بالإحالة الى العشيرة او الجهة او المنطقة. و اما اطار “الانتماء المرجعي” كتطلع نحو الانجاز فانها لا تحيل الى “مشروع وطني ” بل الى تهويمات الخلافة و الى طوبى مشاريع لم تتحقق و هو ما يبرز الى جانب اضطراب في تمثل الواقع و التعامل معه الى جانب ما يشبه غياب و تعطل دور هياكل الادماج و مؤسسات المساعدة على التنشئة الاجتماعية من مدرسة و حي سكني و عائلة نواتية او موسعة هذا الى جانب تراجع “الجاذبية المؤقتة” التي عرفتها الاحزاب و الجمعيات بعد 14 جانفي 2011 اذ لا يتجاوز عدد الشبان المنخرطين في الاحزاب و الجمعيات اثنان بالمائة من الشباب التونسي.
في ظل ضعف اطر بناء “الاحساس بالانتماء الجماعي” ينمو الاحساس ب”المجهولية ” الذي يبرر كل اشكال التجاوز ما دمت ” مانيش باش نخلي وجهي عندهم” و هو ما يكشف عن ضعف تمثل القانون و يكفي ان نشير الى ان نصف حوادث العنف ضد المراة كان الفضاء العمومي مسرحا لها . و من بين العوامل “المساعدة” على ممارسة العنف ضد المراة ضعف اعتبار الكرامة البشرية و ضمور ثقافة الانجاز و هو ما يفسر “استهداف ” النساء الناجحات و القياديات و جعلهن هدفا للعنف المادي و المعنوي و تتغذى هذه النزعة بوضعية انسداد الافق للافراد و المجموعة و هو ما ساهم في تفشي العنف المادي و المعنوي و اللفظي في الشارع .
تساهم “رواسب” الموروث الثقافي في توفير ارضية مناسبة لاستهداف النساء بالعنف من خلال تغذية التناقض بين “التلقائية” التي تمثل مكونا هاما من مكونات نزعات تحرير المراة و الاقرار بانسانيتها و التاكيد على ضرورة ان تكون “الشفافية ” قاعدة التعامل معها و “الدهاء و المكر” الذي تجعله ثقافتنا العربية-الاسلامية اساس تفاعل المراة مع قرينها و محيطها .و يضاف الى ذلك اننا حملنا مسالة تحرير المراة و تطوير مكانتها اكثر مما يحتمل اذ جعلناه العنوان الوحيد للحداثة و الدليل الاساسي لتوفر الحريات و هو ما ادى في ظل غياب الحريات السياسية الحقيقية الى “تحرير المراة و صبينة الرجل ” حسب العبارة الرشيقة للاستاذ عبد القادر الزغل.
هشام الحاجي*، اعلامي وباحث اجتماعي
Comments