المؤرخ عميرة علية الصغير ل " التونسيون ": تونس تعيش تحت رحمة "الكومسيون المالي " والنخب خذلتنا
** أكد الدكتور عميرة علية الصغير المؤرخ والباحث في المعهد العالي للتاريخ المعاصر وأستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة التونسية أن وضع تونس اليوم لا يختلف عن وضعها قبل الاستعمار الفرنسي
** مسؤولية فشل “الثورة” تعود في نظرنا لنخب المجتمع التي برهنت على عدم قدرتها على صياغة الحلول و البدائل السياسية و التنموية لإخراج البلاد من أزمتها و إعطاء الناس الأمل في حياة أفضل، النخب المثقفة بالأساس كانت امّا من الانتهازية و الاسترزاق فلحقت بصف الحاكمين أو من صنف الجبن او الكسل فقعدت على مسؤوليتها تجاه وطنها.
تونس – التونسيون نبيل البدوي
تعيش تونس منذ ثماني سنوات مخاضا كانت نتائجه الى حد اليوم سلبية خاصة في مستوى ظروف عيش المواطنين وتنامي النفوذ الأجنبي بما يهدٌد السيادة الوطنية . الدكتور عميرة علية الصغير تحدٌث ل ” التونسيون ” بعين الباحث والمؤرخ عن حصيلة ثماني سنوات بعد ” الثورة’
– ** كمؤرخ هل عاشت تونس فترة مماثلة لما تعيشه الآن خاصة في منطقة الوسط الغربي ؟
منذ استقلال البلاد في 1956 لم تعرف تونس فعلا وضعا من الوهن و الخطورة كما تعرفه الآن وضعيتها من حيث سيادتها هي في حال تونس أواخر القرن التاسع عشر عندما فرضت عليها الحماية عن طريق الكمسيون المالي ثم الاستعمار المباشر و من حيث أوضاع الناس الاجتماعية تعرف البلاد تدهورا عاما ماديا و نفسانيا و تتحمل الحكومات المتعاقبة منذ سقوط بن علي مسؤولية تدهور الوضع الحالي للخصائص السياسية للذين استحوذوا على الحكم و خاصة الطرف الإسلامي فيهم ، اذ تبين انّ من حكموا و يحكمون ليس فقط هم فاقدي الكفاءة في التسيير بل هم منعدمي الروح الوطنية و والوعي الاجتماعي.
ودون استعراض الأرقام فانّ كل المؤشرات تدل على تدهور شامل حيث تفاقمت مديونية البلاد لحالة لم تعرفها سابقا وفاتت نسبة الديون قيمة نصف الدخل القومي للبلاد و تفاقم العجز التجاري و تدحرجت قيمة الدينار لأخفض قيمة في تاريخه و منذ صدوره في 1958 و تراجعت الاستثمارات في البلاد بل مئات المؤسسات ومنها المعملية أغلقت أبوابها لفتح السوق للاستيراد و لمافيا التهريب ، اذ أضحى أكثر من نصف النشاط الاقتصادي خارج القانون و السيطرة و في المجمل أضحى حال البلاد تلخصه المفردات التالية: تدهور اقتصادي، تبعية مفرطة، تداين خانق، تهريب متفاقم، تهرّب جبائي، فساد و رشاوي من القمة الى القاعدة.
على المستوى المجتمعي: تدور لمعيشة الناس، تدهور للقدرة الشرائية، تدهور للخدمات الصحية و التعليميّة ،بطالة متفشية، شباب عاطل، تفشي الهجرة الشرعية و غير الشرعية، استفحال الجريمة، استفحال مؤشرات التأزم الاجتماعي والعلائقي في المجتمع (استشراء العنف والجريمة، تعاطي المخدرات و انتشارها، تزايد نسبة الانتحار،…).
و الأخطر هو تركز الإرهاب في البلاد الذي أضحى سيفا مسلولا على رؤوس التونسيين وهو من تبعات حكم الإسلاميين( جماعة النهضة) بالخصوص و تورطهم و تساهلهم مع الفكر التكفيري و المجاميع الإرهابية و ذاك منذ 2011 و عودة جماعة النهضة بالأساس للساحة السياسية و الإفراج على الإرهابيين من السجون و عودة من كانوا في بؤر القتال من خارج تونس…
طبعا هذه المؤشرات السلبية تعرف خطورة أكبر بالجهات المحرومة و المهمشة من البلاد و التي كانت منطلقا للثورة في 2010 و 2011 و هي المناطق الداخلية التي ثارت ضد نظام بن علي لرفع الضيم و البؤس و الاحتقار عليها فوجد أهلها أنفسهم في وضع ابأس و زاد الإرهاب فيها من صعوبة حياة الناس فيها.
فجهة القصرين و سيدي بوزيد و قفصة و الكاف و غيرها من الدواخل و أحزمة الفقر حول المدن الكبرى هي في حالة بؤس معمم و انعدام الأمل في حياة أفضل مما ينبئ بانفجارات لا ندري خطورة مآلها.
– ** بعد ثماني سنوات لم نغادر النقطة الصفر في مستوى التنمية والبطالة وازداد الإرهاب وانهار الدينار وارتفعت الأسعار ودمرت الطبقة الوسطى هل تعتبر أن ” الثورة ” فشلت ومن المسؤول عن ذلك ؟
كنت أجبت في السؤال السابق عن مآل أوضاع البلاد و أهلها و حمّلت المسؤولية أساسا لمن حكموا تونس بعد سقوط بن علي في 2011 ، و لا تنحصر المسؤولية فقط في السلطة التنفيذية أي الحكومات بل كذلك في من هم في البرلمان لانّ السلطة التشريعية هي التي تصوت على القوانين و توافق على نمط التنمية و تصادق على الميزانية .
يبقى أن نشير أيضا إلى أن “الثورة “كشفت” على “حقيقة التونسيين”، أو على جانب كبير منهم، من حيث نضجهم الحضاري ، فعندما رفعت عصا الاستبداد السياسي عنهم و تراجع الخوف من “مطراك البوليس” انكشفت حقيقة فئات واسعة من المجتمع تتلخص في غياب الوعي المدني لديها وضعف انغراس قيم التمدّن و التحضر فيها، فسابت الغرائز و انفلتت المكبوتات فاستفحلت كل مظاهر التسيّب من عنف و فساد بأنواعه خاصة و إن من حكموا و يحكمون اثبتوا ان الحكم في كنهم هو “غزوة”( على طريقة الفاتحين المسلمين) تمكنهم من اقتسام الغنائم بين الأهل والأتباع و المقربين و الناس على دين ملوكهم.
** هل فشلت الثورة؟
يمكن أن نقول ذلك و لعلّ النجاح الوحيد الذي تحقق هو رفع يد الحاكم المستبد و إقرار الحريات للناس في التّعبير و التنظم ، لكن هذه الحريات هي الآن في باب “الوقتي” ومؤشرات عديدة تنبئ انها قادمة على “ايام سوداء” لأن من بيدهم السلطة لا اجابة جدية لهم على ترقّبات المجتمع في إصلاح أوضاعه الاجتماعية و الأمنية الا القمع.
كذلك مسؤولية فشل “الثورة” تعود في نظرنا لنخب المجتمع التي برهنت على عدم قدرتها على صياغة الحلول و البدائل السياسية و التنموية لإخراج البلاد من أزمتها و إعطاء الناس الأمل في حياة أفضل، النخب المثقفة بالأساس كانت امّا من الانتهازية و الاسترزاق فلحقت بصف الحاكمين أو من صنف الجبن او الكسل فقعدت على مسؤوليتها تجاه وطنها.
– ** أنت من المساندين لائتلاف الصمود هل يئست من الأحزاب السياسية بعد فشلها في استقطاب الشارع ؟
أنا بتواضع مع أصدقاء آخرين من مؤسسي “ائتلاف صمود” و مسيريه وهذا الإتلاف أتى كمبادرة من أشخاص نشيطين في المجتمع المدني إيمانا منهم من أنّ التذمّر والتحسّر على وضع البلاد و البقاء في زاوية أو “إفراغ” شحنات الغضب على صفحات التواصل الاجتماعي لا يغير أوضاع الناس ،فكان هذا الائتلاف على غرار عديد الجمعيات و التنظيمات التي تأسست من هذا القبيل و نظرا لتقييمنا من ضعف مردودية الأحزاب السياسية و خاصة سمعة تلك الأحزاب و السياسيّين بشكل عام لدى عموم الناس الذين أضحوا لا يرون فيهم الا “انتهازيين” و “يجرون وراء مكاسب الكرسي” و “أن لا ثقة فيهم” ،وهو إن كان في ذلك جانبا كبيرا من الحقيقة فهو حكم مبالغ فيه و تعميم ظالم، على كل من هنا أتت قناعة توسيع ائتلاف صمود إلى مبادرة مدنية أوسع و خروج المجتمع المدني من دور الناقد و الضاغط فقط إلى دور أرقى سياسي أي إلى لعب دور الفاعل و كان تكوين مبادرة “نشارك” التي وسعت الائتلاف إلى جمعيات أخرى و شخصيات وطنية فاعلة و يطمح هذا الائتلاف إلى توحيد المبادرات المماثلة للدخول مجتمعة في التنافس الانتخابي القادم بقائمات مواطنيّة فعلا تعبر على مشاغل الناس و تحمل أمالهم في برنامج انتخابي موحّد، و قد تأسس أخيرا في نفس المنطق و لذات الغايات ائتلاف “مواطنون” ونحن نبارك كل عمل مواطني هدفه إنقاذ الوطن ويصلح أوضاع البلاد و يعطي الأمل للتونسيين
– ** معركة المساواة في الميراث يعتبرها البعض في غير وقتها هل ترى هذا ؟
تتعرض لجنة الحريات الفردية و المساواة منذ أصدرت تقريرها إلى حملة تشويه و تكفير و تهديد ممنهجة من القوى الرجعية و المحافظة و يندرج فيها الغوغاء و حتى موظفو الدولة ذاتهم من ائمة و دعاة و مدرسين ، تدفع لهم المجموعة الوطنية رواتبهم، شأن مدرسي الزيتونة، زيادة على المنتصبين محامين دائما عن الرب و عن الإسلام و عن الهوية الثابتة للشعب التونسي “المسكين” الذي “يتآمر عليه المتفسخون و المتغرّبون و الشواذ”.
هذا أمام تخاذل واضح من القوى الحداثية في البلاد ، أو الأصح تلك التي تدّعي ذلك، و هروبها المخجل أمام هجمة أعداء تحرر الإنسان و اختفائها وراء تعلات واهية من قبيل “التونسي في حاجة أولا للغذاء و الشغل ” و ليس همه “حرية الفكر و الضمير” أو” المساواة في الإرث أو حرية الإنسان في جسده” أو “تجريم العنصرية” و يضيف آخرون أن ما قدمته اللجنة من مقترحات لتحديث و تكييف و ملاءمة مدونتنا القانونية مع دستور البلاد و مع المواثيق الدولية هو خضوع لأوامر و املاءات قوى الشر من الاتحاد الأوربي و دول الكفر عامة !!
هذه التعلة في معارضة الإصلاحات العميقة و المتعلقة بسلم القيم و الحقوق ما فتئ يرددها المحافظون و متيبّسو الأدمغة في وجه المصلحين و منذ القرن التاسع عشر، أخرجوها عندما صدر عهد الأمان في 1857 و في دستور 1861 و في “امرأتنا في الشريعة و المجتمع” في 1930 و في مجلة الأحوال الشخصية في 1956 و في غيرها من الإجراءات و الإصلاحات التي كانت تونس سبّاقة فيها .
خلاصة القول ، المعركة هي معركة حضاريّة بامتياز و على كل أن يختار صفّه ، امّا صف الجمود و التخلف و إخراج مجتمعنا من التاريخ أو صف التطور و التقدّم و الحياة و تحرّر البشر. كل صمت من مثقف ، أو من يدعي ذلك، هو تشجيع لجيش الرجعيين على الانتصار في هذه المعركة الحضارية بامتياز و خيانة لمستقبل وطننا الذي نحلم به حرّا منيعا، عادلا و متقدما.
Comments