المحرقة التربوية في تونس: تقديرات لحجم الأضرار المنجرة عن غلق المؤسسات التربوية
بقلم عماد بن عبد الله السديري *
تسبب انتشار فيروس كورونا منذ بداية العام 2020 في إغلاق عشرات الملايين من المؤسسات التربوية عبر العالم. وبحسب التقديرات الدولية المتوفرة، فقد أدى ذلك إلى حرمان حوالي 1.6 مليار تلميذ وطالب من الاستمرار في التعلم بشكل طبيعي. وللتخفيف من التداعيات السلبية لهذه الأزمة العالمية غير المسبوقة، اعتمدت معظم الحكومات عبر العالم حلولا عاجلة ومتنوعة بغرض ضمان احترام حق جميع التلاميذ والطلبة في جميع المستويات ومن جميع الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية في الحصول على تعليم جيّد يمكّنهم من الاستمرار في التعلم ويعدهم للتكيّف مع مثل هذه التحديات الطارئة.
في الحقيقة، إن المطلع على بعض الدراسات البحثية التي نشرتها بعض المؤسسات الدولية الكبرى بشأن تقدير حجم الآثار المحتملة لإغلاق المدارس والمعاهد بسبب انتشار فيروس كورونا على مخرجات التعليم والتعلم لا يمكنه إلا أن يشعر بالخوف على مستقبل الشعب التونسي.
محرقة تربوية في تونس
ففي ورقة بحثية نشرها البنك الدولي بتاريخ 17 جوان 2020 تحت عنوان “محاكاة الآثار المحتملة لإغلاق المدارس بسبب كوفيد 19 على مخرجات التعليم والتعلم: مجموعة من التقديرات العالمية” يُتوقّع أن يتسبّب إغلاق المؤسسات التربوية عبر العالم في خسائر تربوية وبشرية واقتصادية فادحة، وبخاصة في بعض الدول التي لم تعتمد أي حلول بديلة واكتفت بالإغلاق لا غير.
وبالاعتماد على ما ورد في الورقة البحثية التي نشرها البنك الدولي، لا سيما التقديرات الخاصة بالدول التي قاربت فيها فترة غلق المؤسسات التربوية السبعة أشهر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يتبيّن أن الجيل الحالي من الأطفال التونسيين قد تعرّض عمليا إلى محرقة تربوية حقيقة ستلحق الكثير من الأذى بأدائه التربوي ومستقبله المهني. بل إن تونس بأسرها ستخسر الكثير والكثير بسبب فشل كبار المسؤولين في الحكومة التونسية في تقدير العواقب الوخيمة لتعليق الدراسة لفترات طويلة وعدم اتخاذهم للإجراءات اللازمة لتمكين ملايين الأطفال التونسيين من الاستمرار في التعلم عبر إستراتيجيات وأدوات بديلة كثيرة.
وبحسب المنهجية المعتمدة في الورقة البحثية المشار إليها آنفا، فإنه من المتوقع أن تتراجع قيمة المؤشر الخاص بـــ “سنوات الدراسة المعدلة بحسب مقدار التعلم” في تونس من 6.3 سنة إلى 5.2 سنة. فالطفل التونسي، بحسب ما يوثقه البنك الدولي، بإمكانه حسابيا كمعدل عام أن يدرس لمدة 10.2 سنة بين سن الرابعة والثامنة عشر.
إلا إنه عندما يتم قياس مقدار التعلم الحقيقي الذي يحصل عليه الطفل التونسي بحسب أدائه وتمكنه من بعض المعارف والمهارات الأساسية يتبيّن أنه لا يدرس عمليا وفعليا إلا 6.3 سنة. وتبعا لغلق المؤسسات التربوية في تونس بشكل متصل لفترة تقارب السبعة أشهر خلال العام 2020 (من 12 مارس إلى 15 سبتمبر 2020) فيتوقع أن يتراجع مقدار التعلم الخاص بالأطفال التونسيين (الفئة العمرية 4 إلى 18 سنة) إلى 5.2 سنة لا غير من أصل 14 سنة من التعلم كحد أقصى. وهو ما يعني عمليا أن أطفال تونس اليوم سيهدرون حوالي 9 سنوات كاملة من عمرهم دون أن يتعلموا أي شيء بسبب أداء وزارة التربية التونسية في الفترة السابقة وإذا استمرت الأوضاع التربوية الرديئة في بلادنا على حالها.
تأثير سلبي على سوق الشغل
بالإضافة إلى تراجع حجم التعلم الفعلي في تونس، فمن المتوقع كذلك أن يتأثر الجيل الحالي بشكل سلبي عند التحاقه بسوق العمل في المستقبل. فعلى صعيد الدخل السنوي، فإن الجيل الحالي من الأطفال التونسيين المسجلين في سنوات الابتدائي والإعدادي والثانوي، وفي ظل غياب حلول تربوية بديلة ومجدية، من المتوقع أن يخسر حوالي 1789 دولار أمريكي ( أي 4884 دينار تونسي بحسب القيمة الحالية للدينار التونسي مقابل الدولار الأمريكي) من مدخوله السنوي عند الالتحاق بسوق العمل بسبب التدني المتجذّر لمستواه التعليمي وتراجعه المحتمل بعد إغلاق المؤسسات التربوية التونسية لفترات طويلة بسبب تفشي جائحة كورونا.
وعليه، فإنه يتوقّع أن يبلغ إجمالي الخسارة في الدخل الفردي لكل طفل تونسي يعيش بيننا حاليا خلال كامل مسيرته/حياته المهنية المستقبلية 32647 دولار أمريكي (أي 89126 دينار تونسي). وباعتبار أن أعداد التلاميذ التونسيين الذين التحقوا بمقاعد الدراسة في شهر سبتمبر 2019 قد بلغ مليونان و174 ألف تلميذا وتلميذة، فإن هذا يعني عمليا أن الاقتصاد التونسي – أو الشعب التونسي – سيخسر، بسبب المستوى التعليمي المنهار للجيل الحالي وفشل الحكومة في إنقاذه، حوالي 71 مليار دولار أمريكي (أي حوالي 194 مليار دينار تونسي).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه المبالغ الطائلة التي سيهدرها الجيل الحالي من الأطفال التونسيين في السنوات والعقود القادمة تعتبر أكبر بكثير من حجم الديون الخارجية الحالية للبلاد التونسية. بل عمليا تؤكد مثل هذه التقديرات والتوقعات أن المستقبل التنموي في بلادنا سيكون بائسا بجميع المقاييس وذلك بعد أن تم تقزيم رأسمالنا البشري وحرمانه بشكل صادم وغير مسؤول ومخجل من حقه في تلقي تعليم جيد يزيد من إنتاجيته ويعزز تنافسيته ويؤهله لاعتلاء مرتبة أفضل في العالم.
تراجع التحصيل العلمي واتقان اللغات
بالإضافة إلى تراجع مقدار التعلم الذي يتلقاه الجيل الحالي من التلاميذ التونسيين وارتفاع معدلات الهدر في مدخوله السنوي وعلى مدى مسيرته المهنية المستقبلية، فإن غلق المؤسسات التربوية وتعطيل التعلم دون اتخاذ إجراءات بديلة لتخفيف الآثار السلبية المنجرة عن ذلك سيؤدي إلى زيادة في نسبة الأطفال التونسيين في سن سنوات التعليم الإعدادي الذين يفتقدون إلى الحد الأدنى من الاتقان لبعض المهارات والمعارف الأساسية بنسبة 23.63%؛
وهو ما يعني أنه من المتوقع أن ترتفع نسبة التلاميذ التونسيين الذين لا يتقنون الحد الأدنى من الرياضيات مع نهاية التعليم الأساسي (السنة التاسعة)، بحسب المعايير والتقييمات التي تضعها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من 75% في الأعوام السابقة إلى 92.72% خلال هذا العام. كما يتوقع أن ترتفع نسبة التلاميذ التونسيين الذين لا يتقنون الحد الأدنى من القراءة باللغة العربية مع نهاية التعليم الإعدادي من 72% إلى حوالي 89%.
وهو ما يؤكد أن الأغلبية الساحقة من التلاميذ التونسيين لن تكون قادرة على استيعاب البرامج الرسمية في السنوات القادمة وستجد نفسها مجبرة على الانقطاع المبكّر عن التعليم ما لم تتم مراعاة مستواها الحقيقي وتوفير الدعم العلاجي اللازم لمساعدتها على تدارك ما فاتها وتجاوز تدني مستواها.
وفي هذا السياق، فإنه من المهم أن نذكّر بأن البنك الدولي قد وثّق في أواخر العام 2019 من خلال تقريره بشأن مؤشر رأس المال البشري أن أكثر من 65% من التلاميذ التونسيين في سنوات التعليم الابتدائي يعانون من فقر التعلم بسبب عجزهم عن قراءة فقرة بسيطة باللغة العربية.
ارتفاع نسبة الأطفال المفقّرين تربويا
وفي ظل استمرار غلق المدارس الابتدائية لفترة طويلة خلال هذا العام وعدم اتخاذ وزارة التربية لإجراءات وطنية بديلة لتمكين جميع الأطفال التونسيين من الاستمرار في التعلم، فإنه من المتوقع أن ترتفع نسبة الأطفال التونسيين المفقّرين تربويا في سنوات التعليم الابتدائي من 65% في الأعوام السابقة إلى أكثر من 80% على أقل تقدير. وهو ما يعني عمليا أن السياسات التربوية التي طبقتها الحكومة التونسية ستسحق المستقبل التعليمي لأكثر من 80% من الأطفال التونسيين الذين يعيشون اليوم بيننا.
في الختام، إن تقديرات مجموعة البنك الدولي لا تدق ناقوس الخطر فحسب. بل إنها في جوهرها تحذّر من دمار تربوي مؤكد وخراب تنموي محتوم في أي دولة لم تتعامل بالجدية الكافية مع التحديات التربوية الكثيرة التي تلت انتشار فيروس كورونا في العالم. وإن الربط المقصود بين الأداء التربوي الحالي والأداء التنموي المستقبلي للأجيال الحالية ليمثل كذلك في لبه إنذارا قويا بأنه لا ازدهار اقتصادي ولا رخاء اجتماعي دون العناية بالموارد البشرية واحترام حقها في التعلم الجيّد والمستدام. إننا نهار وننزف كل يوم أكثر فأكثر… ولا بصيص أمل في الأفق.
Comments