المشهد التونسي .. خريف الغضب !
منذر بالضيافي
يخيم على المشهد التونسي اليوم، بعد سنة من العمل بالتدابير الاستثنائية، التي بموجبها تولى الرئيس قيس سعيد ادارة البلاد بصفة منفردة، حالة من القلق الجماعي، التي تحولت الى شعور لافت بخيبة الأمل الكبيرة، وهو الذي كان محل انتضارات كبيرة، من قبل صفوف شرائح عديدة من التونسيين، بما في ذلك البعض من الذين تصدروا العشرية الأخيرة.
فباستثناء المعارضة الممثلة أساسا في الحركة الاسلامية – حركة النهضة – و الذين من حولها، والتي وبرغم تعثر “مسار 25 جويلية “، فإنها ما تزال معارضة معزولة مجتمعيا، ولا ينظر لها كبديل سياسي مستقبلي.
فالرئيس قيس سعيد، قوبل منذ لحظة الاعلان عن “واقعة 25 جويلية 2021” ب “ترحاب” داخلي و “تفهم” خارجي، قبل أن يغير – هذا الخارج – من موقفه بأكثر من 360 درجة، بسبب تواصل حالة من “الغموض”، التي يرونها مزعجة وربما أيضا تهدد مصالحهم في تونس و في المنطقة أصلا، فضلا عن تواصل خطهم في “الانتصار للديمقراطية”.
و هو ما تم التعبير عنه بوضوح من قبل الموقف الأمريكي، وما تبعه من مواقف أخرى، شملت دول و مؤسسات دولية وخاصة المالية منها، يفسر اساسا بتردد صندوق النقد الدولي، في منح قرض لتونس، تردد وصل حد المماطلة، في الوصول الى اتفاق مع تونس، تعول عليه البلاد في تخفيف حدة الأزمة الغير مسبوقة التي دخلت فيها.
ولعل الموقف الأمريكي من تونس ومن النظام القائم فيها، جعل البلاد في ما يشبه العزلة الدولية، وهو و ضع تفاقم أكثر، مع غياب سياسة خارجية تونسية وتخبط في ادارة العلاقات الخارجية، غياب رؤية للسياسة الخارجية كانت وراء ما يسبه حالة شلل اصابت الدبلوماسية التونسية، فضلا عن تراجع وضعف تسيير ادارة الخارجية التونسية.
لا يختلف اثنان اليوم، على أن العالم يعيش حالة مخاض مفتوحة على المجهول، تفترض ادارة ذكية وجماعية، وذلك في ظل سياق دولي صعب، بعد سنتين من مضاعفات وباء الكورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، التي أدخلت العالم، في مرحلة عدم استقرار يرجح أن تستمر لسنوات، والتي مست عصب الحياة وهما الغذاء والطاقة، جعلت الرئيس الفرنسي ماكرون يتوجه بخطاب “وعيد” للأمة الفرنسية، بانتهاء زمن الوفرة والرفاه، خطاب يشبه ما قاله الزعيم البريطاني تشرشل ابان الحرب الثانية.
في اشارة على جدية ما ينتظر لا فرنسا والقارة العجوز فقط، بل العالم بأسره ، فما بالك بالدول الضعيفة والهشة مثل بلادنا، التي تواجه أهوال تعجز عن حملها الجبال، متمثلة في انقسام مجتمعي و أزمة سياسية ترتقي لأزمة حكم، والأهم انهيار اقتصادي يهدد بانفجار مجتمعي قادم، وبخريف غضب لابد من الاستعداد له جيدا.
و لعل مؤشراته بدأت في البروز، ولا تخفى بالعين المجردة، خصوصا في ظل تراجع المخزونات الاستراتيجية، من الطاقة والمواد الغذائية، ونفاذ عديد المواد الأساسية من الأسواق، ما خلف حالة من الخوف لدى عموم التونسيين.
وما يزيد الأوضاع تعقيدا، هو حالة الغموض حول الرئيس ومشروعه، برغم بعض علامات او اشارت الوضوح، في كونه ذاهب الى تكريس حكم “الرجل الواحد”، في وضع داخلي ودولي يفترض ادارة تشاركية للخروج من الأزمة، مع دعم دولي لا نبالغ على ضرورة أن يرتقي “لمشروع مارشال تونسي للإنقاذ”.
اذ أن بلادنا بإمكانياتها المحلية، وفي ظل الأزمة الكونية الحالية، ستكون لوحدها عاجزة على التخفيف من أعباء الأزمة، فما بالك الخروج منها، وهذه حقيقة لا يمكن تجاوزها أو القفز عنها، تحت أي عنوان جذاب ومخاتل.
أزمة مركبة .. أين حيوية المجتمع ؟ أين قادة الراي؟
ما يحيرني في المشهد السياسي التونسي الحالي، ليس فقط ارتباك وعجز الفاعلين السياسيين في الحكم و المعارضة، وحالة الغموض وغياب الرؤية او خارطة طريق الانقاذ الوطني، بل أن ما يحيرني هو فقدان المجتمع التونسي لحيويته، تلك الحيوية التي ميزته خلال كامل فترات تاريخه الطويل والممتد، حيوية مكنت من حماية الدولة والنمط المجتمعي التونسي العصري.
اليوم – للأسف – و الى جانب عجز الطبقة السياسية عن تقديم بدائل، نعيش فقر وكسل النخب، التي كان يفترض ان تفرز قيادة وطنية وقادة راي ، يتصدرون مطلب التغيير الحامل والمعبر عن المشروع الوطني الجامع، المتمسك بثوابت الارث الوطني العصري التونسي، سواء في ادارة البلاد أو في علاقاتها الخارجية.
غياب النخب في قيادة التغيير، ترجم بوضوح من خلال غياب نقاش وطني، وخاصة في وسائل الاعلام الجماهيرية media de masse، والبلاد تمر بأخطر أزماتها في تاريخها الحديث.
وهو ما برز من خلال فقر المضامين الاعلامية، الا القليل والنادر منها، خاصة في ما يسمى ب ” الاعلام الجماهيري ” ( الاذاعة و التلفزيون )، وعجز القائمين عليه، عن ادارة حوار وطني حقيقي، تشارك فيه النخب التقدمية، التي هي خير ضمان لحماية ثوابت الأمة التونسية، وما عرف لاحقا ب “الأنموذج التونسي”.
لقد اختار اعلامنا فسح المجال واسعا لجدل سياسوي بلا معنى، اثثه “سياسيون” و ” خبراء و ” متحدثون” نلاحظ انهم عنوان للتوتر، والفقر المعرفي والاستراتيجي، ما زاد في تعفين المشهد وحتى ارباكه، وترذيل الممارسة السياسية، وبالتالي نفور الناس من الاهتمام بالشأن العام، تاركين المجال واسعا للمغامرين.
وبالتالي تأخير الحل الوطني، فضلا عن مساهمة هذا الرهط من الاعلام، في ارتفاع منسوب ازمة الثقة كبيرة، بين كافة شرائح المجتمع وقوى التغيير، التي تعتمل في رحم المجتمع، خاصة “الشباب الخطأ”، الذي عبر عن نفسه – في أكثر من مناسبة – خارج أطر ومؤسسات الدولة، والاهم خارج الاعلام السائد، عبر عن نفسه في كل حراك مجتمعي، وهو الذي نقدر أنه سيكون في الصفوف الأمامية في المرحلة القادمة.
لقد بقت قوى التغيير، وخاصة النخبة و الشباب، مهمشة و مقصاة من المشاركة في الشأن العام، وبالتالي من المشاركة في تأطير المجتمع وفرض الحل العقلاني، من اجل تصحيح المسار لا تقويضه.
*
Comments