المشهد التونسي: مجتمع قلق، حكومة ضعيفة ودولة منهكة
كتب: منذر بالضيافي
الشأن الجاري، في تونس اليوم يفتقد للمعنى، و على جميع المستويات، فحيثما تولي وجهك تلاحظ ذلك .. مسجد قلق، أحزاب قلقة، مؤسسات قلقة، مجتمع كله في حالة قلق .. حالة قلق جماعي .. تونس اليوم “مريضة حسا ومعنى”، كما قال المؤرح بن أبي ضياف، في كتاب ” الاتحاف”..
تونس اليوم، سلطة حاكمة بلا برنامج، سلطة منقسمة ومشتتة، ومصدومة من حقيقة الاستحقاقات التي تواجهها، والتي لا تملك حلولا لها، وأيضا معارضة تقليدية احتجاجية بلا عمق جماهيري، ما سمح بصعود التيارات الشعبوية، التي يصعب التحكم في مساراتها وتوجهاتها، خصوصا في ظل تزامنها مع ارتفاع منسوب أزمة الثقة في النخب و”السيستام”.
وهو ما ترجمته نتائج الانتخابات الأخيرة، التي أتت برئيس من خارج المنظومة / النسق ويخطط في “العلن” لتقويض النظام السياسي وتعويضه ب “مشروع سياسي” غامض غموض صاحبه.
كل هذا يجري، وسط حديث عن شيوع الفساد بمستويات فاقت كل الحدود، وهي ظاهرة تهدد بخراب العمران لأنها تفسد الاجتماع البشري، فضلا عن انها اصابت مسار الانتقال السياسي في مقتل، هذا المسار الذي يشهد حالة من الارتباك، برغم تواصل البعد “الشكلاني” للديمقراطية (انتخابات دورية).
كما نلاحظ اننا وبعد اكثر من تسعة سنوات من ثورة 14 جانفي 2011، قد انتقلنا من ” دولنة المجتمع” كما يقول عالم الاجتماع التونسي عبد الباقي الهرماسي، حيث كانت الدولة “تهيمن” على المجتمع بذراعيها الأمني ( البوليس) والسياسي ( حزب التجمع) ، انتقلنا اليوم الى ما أصبح يسمى ب ” تغول ” المجتمع على الدولة ومؤسساتها ، حيث تم استضعافها كمقدمة لا يستبعد أن ينجر عنها تفكيكها.
في المقابل نجد أن المجموعة الدولية التي كانت متحمسة لدعم ما يسمى ب “الأنموذج التونسي”، اذ ضخت الأموال والمساعدات فضلا عن “الدعاية” لهذا “الأنموذج” في الملتقيات والمحافل الدولية، نجد أن حماستها بدأت تضعف، بل لا نبالغ بالقول بأنها تركت تونس وشأنها، خاصة في ظل توجه اختار التقوقع والانعزال، ونعني هنا تجوه الدبلوماسية التونسية مع الرئيس سعيد.
الان وهنا، وبعد تسعة سنوات من الثورة، بدأنا نلاحظ بل بدأنا نجني حالة من التراجع للخلف بما في ذلك في المستوى السياسي، الذي يعد النقطة المضيئة في هذا الانتقال، من ذلك أن تواتر الانتخابات والتداول السلمي والديمقراطي على السلطة، قد أصبح يتحول الى “مأزق” عوضا عن “الفرصة”.
وهنا نشير الى أن الانتخابات الأخيرة جاءت لتأكد هذا المأزق السياسي، الذي تزامن مع حالة فراغ قانوني ودستوري، ونعني هنا “المحكمة الدستورية”، التي فسحت المجال الى بداية الانحراف في تأويل الدستور من قبل من عهد له بحمايته.
كما خلقت الانتخابات الأخيرة مشهد سياسي لا يضمن الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والحكومي، وهي التي جاءت بمجلس نيابي فسيفسائي يصعب معه التوصل لتشكيا ائتلاف حكومي مستقر، وهو ما يفسر عجز الأحزاب السياسية عن تشكيل حكومة، بعد مرور اكثر من أربعة أشهر من الاعلان عن النتائج، وفي الأخير تم القبول بحكومة “الأمر الواقع” أو “حكومة الضرورة”.
حكومة هندسها رئيس الجمهورية، ويرأسها شخصية بلا حزام سياسي وبرلماني، تشكيلة حكومية ألغت نتائج الانتخابات بل الأصح انقلبت على نتائج الانتخابات، وجاءت بحكومة بلا شرعية انتخابية وشعبية، وخلف ميلادها تغذية الصراع بين رئاسة الجمهورية والبرلمان، هذا الصراع الذي سيجعل منها حكومة ضعيفة، تقاتل من أجل البقاء لا من أجل الانجاز، واخراج البلاد من أزماتها المتراكمة والمعقدة.
ان استمرار مسار الانتقال السياسي، لا يجب أن يخفي غابة المشاكل والتحديات التي تواجه البلاد، خاصة في المستويين الاقتصادي والاجتماعي فضلا عن المخاطر الأمنية في محيط اقليمي تغلب عليه مظاهر عدم الاستقرار.
لكن مع ذلك لابد من الاشارة الى تواصل حيوية النخب والمجتمع، برغم الصعوبات والتحديات، التي نقدر أنها ستكون “حارسة” لاستمرار وتواصل الانتقال الديمقراطي، وهي التي تجعلنا نتمسك بالأمل بأن تونس ما تزال قادرة على نحت “أنموذج”، مبني على التسامح والتعايش والوحدة الوطنية.
وأن ارث الدولة الوطنية المستقرة، سيقينا مخاطر النزعات “الشعبوية”، التي استفادت من الأزمات، التي تبرز بعد كل ثورة أو انتفاضة، لكنها في تناقض مع ثقافة وجغرافية البلاد، هذه الجغرافيا المطلة على كل جغرافية العالم، والتي جعلت من “قرطاج/تونس”، مدينة متروبيتالانية، مدينة اشتهاها العالم.
Comments