المشهد الحزبي عشية الانتخابات .. اختلال و غموض و عزوف
المهدي عبد الجواد
من المكاسب المهمة التي حققتها الثورة، حرية التنظّم السياسي و المدني. و رفع المرسومان 86 المتعلق بالأحزاب و 87 المتعلق بالجمعيات، كل القيود القانونية على إنشائها و الانتماء إليها و تنشيطها. و كرّس دستور 2014 هذه الحقوق و حصّنها بحقوق أخرى لعل أهمها حرية المعتقد و الضمير. و لعل تنصيص المراسيم المنظمة “للتنظّم الحزبي” هو الذي يُفسّر الإسهال الحزبي و الاستسهال الجماعي لتأسيس الأحزاب حتى “اُمتُهنت الظاهرة الحزبية و اُبتُذلت” عند عامة الشعب الكريم، الذي تربّى في جزء كبير منه على “الحزب”، اسما واحدا و لونا واحدا و خطابا واحدا و زعيما أوحد، فإذا به يجد نفسه في غابة متشابكة الأغصان الحزبية، لا يكاد يُفرّق بين أسمائها و زعمائها فما بالك ببرامجها. وزادت ظاهرة التّرحال الحزبي و الانشقاقات الحزبية الأمر غموضا و عُسرا.
نحن عشية انتخابات 2019 الحاسمة في تاريخ الانتقال الديمقراطي “الفريد” في الوطن العربي، و لا شيئ في الأفق يُبشّر بما يُمكن أن يُسهّل على الناخبين التونسيين أمر الاختيار، و لا حزب يُغذّي عندهم الأمل و يُطمئنهم على مستقبلهم و مستقبل أبنائهم و مستقبل تونس. و يتميّز الوضع الحزبي بالاختلال و التشتت و الغموض و هو ما يُهدد المسار الانتخابي بارتفاع نسب العزوف، و يهدد بتحويل “الديمقراطية” في تونس الى ديمقراطية الأقلية المُتحزّبة، ديمقراطية النخب.
- الاختلال الحزبي
لا يستحق المتابع للشأن الحزبي، كثير عناء و لا ذكاء ألمعيا، لأدراك حقيقة الاختلال الحزبي لفائدة حزب حركة النهضة الإسلامية. فلقد حافظ هذا الحزب سليل الجماعة الإسلامية و الاتجاه الإسلامي على استقراره التنظيمي و القيادي منذ عقود، و لم تؤثّر فيه بنيويا الضربات التي تلقاها في العهود السابقة للثورة، بل زادته صلابة و قوة داخلية، و يعيش الحزب أزهى فترات فعله السياسي، في المجتمع و في الإدارة و في البرلمان و خاصة في الدولة. الدولة التي نشأ “التيار الإسلامي” عدوا لها و بديلا عنها، و لكنه أضحى اليوم أكثر المدافعين على استقرارها، عبر ما سماه زعيمها “العمل على التصالح معها”. و تتصدر حركة النهضة بمفردها و بعيدا على باقي الأحزاب مجتمعة نوايا التصويت في كل عمليات سبر الآراء الصادرة على مختلف المؤسسات، الوطنية و حتى الخارجية. ريادة تُخيف حركة النهضة بقدر ما تُخيف خصومها، و تُخيف الرأي العام الإقليمي و الدولي أكثر من إخافة الرأي العام المحلي.
بعيدا على حركة النهضة تعيش أغلب الأحزاب “العصرية” أزمات هيكلية و بنيوية، تزيد يوما بعد يوم في إضعافها و تآكلها و تآكل نسب الثقة بها و بقياداتها. فقد بلغ حزب نداء تونس درجة من الوهن و الضعف تكاد تعصف به نهائيا، و لعل “السقوط الحرّ” لنوايا التصويت له يعكس ذلك. و لم تُفلح كل مبادرات الإصلاح و “لمّ الشمل” الى الساعة في ايقاف نزيف الانحدار فكيف بإعادة بناء الحزب على قاعدة “النداء التاريخي” نداء الروافد و نداء التنوّع و نداء استكمال المشروع الوطني العصري التونسي. و يظهر “تفكّك” النداء أيضا من خلال غيابه الكلي، على ساحة النشاط السياسي و الفعل العام، إذ يقتصر حضوره اليوم – عمليا- على كتلته النيابية، و نُدرك ان دور البرلمان يكاد ينتهي، بل نعتقد ان إعلان هيئة الانتخابات المستقلة الأسبوع القادم، في موفى شهر فيفري، على “خارطة الطريق” الانتخابية، سيكون الإعلان الفعلي على انطلاق المسار الانتخابي بما يعنيه ذلك من “إنهاء للبرلمان و لدور نوابه”. و لعل تدحرج الرئيس الباجي قائد السبسي الى المرتبة الثالثة في نوايا التصويت، بعد الأستاذ قيس سعيد، الذي لا يمتلك لا حزبا و لا مناضلين و لا آلة انتخابية، يشي بفقدان الباجي أيضا إلى الآلتين الحزبية و الانتخابية.
و لا نجد في جدول الأحزاب أيا من الأحزاب المتفرّعة على نداء تونس. بل ان أحزابا أخرى يقتصر حضورها على نوايا تصويت “باهتة” لزعمائها في الانتخابات الرئاسية، و لا تتجاوز جميعها عتبة الــ2 او 3 في المئة، فما بالك بالــ 5 في المئة.
على يسار الصورة، تعيش الجبهة الشعبية وضعية شلل تنظيمي حقيقي، و يقتصر تواجدها الميداني على “بعض الوجوه” اليسارية المناضلة، او بعض النقابيين في الجهات، علاوة على ما يرشح بين الحين و الآخر من صراعات حادة و لكنها “صامتة” بين قيادات تيار الوطد الموحد، حزب الشهيد شكري بلعيد، و قيادات حزب العمال الذي كان شيوعيا لحمه الهمامي.
وحدها الأحزاب الشعبوية – في هذا الفراغ- تجد لنفسها موقعا. و لعل ذلك هو حال تونس اليوم، إذ ان حزب التيار الديمقراطي للزوجين عبو، ذي الخطابات الشعبوية الثورجية و القصووية، يُحلّق الى المرتبة الثالثة في نوايا التصويت غير بعيد على نداء تونس. و نعتقد انه ان تواصل الأمر على ما هو عليه، فإن المشهد السياسي بعد الانتخابات القادمة في قمته، سيكون مقتصرا على حركتي النهضة أولا و التيار الديمقراطي ثانيا. و على النقيض من حزب الزوجين، يقف الحزب الحر الدستوري و زعيمته عبير موسي، رجع صدى نقيض لكامل المسار الديمقراطي. رفض للثورة و لمكتسباتها، و تغنّ بالعهد السابق، و شعارات قصووية بتغيير الدستور و القوانين و “التحكم” في هامش الحريات، و استهداف الإسلاميين، خطاب شعبوي قصووي يجد له بعض أنصار ممن تضررت مصالحهم، و ممن يعيشون حالة فزع و خوف من الإسلاميين و حلفائهم، لغياب بديل وطني عصري و ديمقراطي.
- غموض انتخابي
حال الاختلال الحزبي التي ذكرنا، مع ضعف الثقافة السياسية حتى لدى الكثير من “الفاعلين” السياسيين و الحزبيين اليوم، يجعل الغموض هو المسيطر على المشهد الحزبي. فلقد كان الاختيار في انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011، قائما على الحدية بين “قوى الثورة” من جهة و “قوى النظام القديم” من جهة ثانية، و عكست نتائجها ذلك، إذ تصدرت الأحزاب المعارضة الرئيسية الأربع نتائج التصويت، حركة النهضة فالمؤتمر من اجل الجمهورية للمنصف المرزوقي فالتكتل من اجل العمل و الحريات لمصطفى بن جعفر فالحزب الديمقراطي التقدمي لنجيب الشابي. أما انتخابات سنة 2014، فقد قامت على الحدية حول مسألة الهوية، بين الهوية الوطنية التونسية و نمط المجتمع التونسي العصري و مكتسباته، و بين من يمثلون تهديدا له، و عكس ذلك نتائج الانتخابات حزب عصري يدعي حماية “النمط التونس” و هو نداء تونس، و حزب محافظ يدعي حماية “الهوية الإسلامية” و هو حركة النهضة.
لسنا اليوم في هذين الوضعيتين، و ان ظلت مسألة الثورة و اعدائها حاضرة عند الاحزاب الشعبوية، و مسألة الهوية متسربة بين الحين و الآخر في جوهر العملية السياسية و في حوافها. مشاغل التونسيين اليوم اقتصادية و اجتماعية و مالية بالأساس. و لكن كثرة اللغط، و كثرة الأحزاب، و امحاء الفروق بينها و صراعاتها اللامتناهية، إضافة الى ما يحوم حول “السياسيين” و نواب البرلمان من شبهات فساد، و استغلال نفوذ و إثراء بائن، و انحدار مستويات الخطاب السياسي و غياب “الايتيقا” فيه، و تركيز الإعلام على ظواهر “البوز/الإثارة” الفضائحية دون العمل على المساهمة في نشر الثقافة الديمقراطية و الانتخابية، زادت الوضع الحزبي غموضا. كما ان حال الشلل التي عاشتها هيئة الانتخابات و انصراف اغلب الفاعلين في المجتمع المدني الى “المشاريع المدنية” الشخصية و الزبونية و تحصيل الوجاهة الداخلية و الدولية، انحرف بدور المجتمع المدني في الإسهام في “تنوير” الرأي العام و ترسيخ قيم المواطنة و المشاركة الانتخابية بتوسيع التسجيل في القيد الانتخابي الذي هو من أوكد مهام هيئة الانتخابات و جمعيات المجتمع المدني.
و تكاد تنعدم امام عموم الناخبين، و حتى داخل الفئات المتعلمة و المتابعة للشأن السياسي و الحزبي – اليوم – امكانيات الاختيار، فتعويم الاختيار بكثرة الاحزاب و المترشحين المستقلين و المغامرين السياسيين، يُمارس نوعا من التعمية على الناخب، و لا تستفيد منه غير الاحزاب العقائدية و الشعبوية.
- العزوف الانتخابي
تؤشر نسب المشاركة الانتخابية السابقة، على بعض ما ستكون عليه الانتخابات القادمة، من جهة نسب المشاركة، فمنذ سنة 2011، شهدت المشاركة انحدارا لافتا، بلغت اقصاها في الانتخابات الجزئية لسد الشغور بدائرة ألمانيا بالخارج، حيث صار المترشح الشعبوي ياسين العياري نائبا بأقل من 300 صوت، و كذلك الامر في الانتخابات المحلية السنة الفارطة.
ان الناس عادة، تخشى المغامرة في عالم مُتغيّر، و تخشى التورط في مزيد تغييره. ان العزوف على الانتخابات يمنح البعض منهم بعض عزاء نفسي – و ان كان واهما و خاطئا – بعدم المسؤولية عما يحصل، و بعدم التورط فيه. سيزيد هذا الوعي الزائف تعمّقا، كثرةُ الاحزاب، و انحداُر خطابها السياسي، و الشكوكُ حول فسادها و فساد مسيريها، علاوة على غياب الحوكمة التسييرية و غياب الديمقراطية و انعدام الشفافية في التصرف المالي للاحزاب و وقوع بعضها تحت سلطة تأثير اللوبيات المالية، و صلاتها المزعومة بقوى الضغط الداخلية و الخارجية، سيزيد كل ذلك من عزوف الناخبين و هربهم من صناديق الاقتراع. و نحن نعلم جيدا، ان توسيع دائرة المشاركة في الانتخابات هو اول ضمانات نجاح الديمقراطية و استقرارها، بل استقرار المجتمع بصفة عامة.
خاتمة
هذه بعض ملاحظات عامة و سريعة، حول وضع حزبي، جديد، لكنه يشكو أمراض الحياة الحزبية في الديمقراطيات العتيقة. امراض يُفترض بالاحزاب و قياداتها ان تنكب على تجاوزها، بتجاوز حال التشتت الى حال الانصهار و التوحد و الائتلاف تسهيلا للاختيار على عامة الناخبين، و تجاوز حال “الاعتباطية” في التسيير الى حال الحوكمة الرشيدة للتسيير الحزبي القائمة على الديمقراطية الداخلية و الشفافية المالية، و الانفتاح على الكفاءات الوطنية للتخلص من قوافل الانتهازيين، و تجاوز الخطاب الشعاراتي الى بناء خطابات سليمة ايتيقيا و عميقة برنامجيا. غير ذلك فان التجربة الديمقراطية في تونس، في خطر حقيقي، قد يجعل منها “ديمقراطية النخب الفاسدة”.
Comments