المشهد السياسي اليوم: حكومة تلد أخرى .. و أزمة الاستقرار تتمدد
منذر بالضيافي
كشفت استقالة حكومة الياس الفخفاخ، و قبلها اسقاط حكومة الحبيب الجملي في البرلمان، وكذلك مشاورات تشكيل حكومة هشام المشيشي، والتداعيات السلبية بعد الاعلان عن تركيبتها، حتى من داخل الفريق الداعم لها، ونعني رئاسة الجمهورية التي هي وراء تكليف المشيشي، وتعيين جل وزرائها ، باستثناء “كوتا” محدودة لرئيسها، على خلاف الدستور، عن عمق الأزمة السياسية التي تمر بها تونس، والتي لا نتوقع أنها ستعرف بداية النهاية لها مع حكومة المشيشي ، سواء مرت أو تم اسقاطها، مثلما أصبح يخطط لذلك في العلن، من قبل من يفترض أنه الأقرب لها (رئاسة الجمهورية).
ان الأزمة السياسية التي ترجمت في الواقع من خلال عدم الاستقرار الحكومي والسياسي وفي مؤسسات الدولة، هي في الواقع كانت متوقعة ومنتظرة، منذ تاريخ الاعلان عن نتائج الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2019.
هذه الانتخابات، التي جاءت ببرلمان مشتت ومنقسم، وبرئيس من خارج “السيستام” السياسي التقليدي، القائم اساسا على الأحزاب السياسية، رئيس “مستجد” و “طارئ” عن عالم السياسية، فضلا عن انتمائه للتيار “الشعبوي”، الذي تبين بعد مرور عشرة أشهر من اقامته في قصر قرطاج، أنه رافض ل “التعايش” و “التوافق” مع النظام السياسي الذي جاء به دستور 2014، القائم على صلاحيات محدودة للرئاسة، واستحواذ رئيس الحكومة على غالبية السلطة التنفيذية، فضلا عن وجود برلمان تتحكم فيه الأحزاب السياسية، وعلى تشتت كتله وألوانه ، فانه مثل عنصر توازن مع السلطة التنفيذية، خاصة بعد مسك الرئيس سعيد لمبادرة تعيين رئيس الحكومة، وبروز نواياه في الهيمنة على كل السلطة التنفيذية.
ولعل هذا ما عجل بتصاعد الصراع، بين قصر قرطاج والأحزاب السياسية، وبقية مؤسسات الحكم (البرلمان)، وهناك مؤشرات ايضا عن تصادم قادم مع الحكومة ( المكون الثاني للسلطة التنفيذية وقلبها في نظام شبه برلماني)، خصوصا في ظل تسريبات – لم تنفيها الرئاسة – عن وجود “حرب باردة” ما بين القصر والرئيس المكلف، عمد الرئيس قيس سعيد الى اخراجها للعلن، في مسعى واضح لإرباك الرئيس المكلف، ساعات قليلة قبل ذهابه للبرلمان لطلب نيل الثقة.
من خلال فرض قائمة وزراء تشير التسريبات الى أن غالبية عناصرها رغم ارادة المشيشي، وهو ما يفسر تأخر الاعلان عن الفريق الى ساعة متأخرة من ليلة الخميس الفارط، والغموض في هوية وزير التجهيز والالتجاء لمراسلة توضيحية لقصر باردو، ولعل أبرزها وأكثرها دلالة تدخل قصر قرطاج بشكل “مهين” للمشيشي ومخالف للدستور ، في فرض وزير الثقافة، الذي سبق للمشيشي التخلي عنه.
واستمرت ممارسات “تشويش” القصر على حكومة المشيشي، من خلال استقبال رئيس الحكومة المستقيل (الياس الفخفاخ)، وحديث عن الاستقرار السياسي مع حكومة تستعد للرحيل وصورتها مهتزة لدى الرأي العام، والدعوة المفاجئة لرئيس البرلمان راشد الغنوشي، والتلميح له بأن سعيد لن يذهب نحو حل البرلمان في حالة فشل المشيشي وفريقه في نيل ثقة مجلس نواب الشعب، وهو تسريب متداول من أكثر من جهة ولم يتم تكذيبه من الفريق الاعلامي لقصر قرطاج، ويؤكد ما يدور في الكواليس ، وما تردد من تصريحات مفادها أن قصر قرطاج يخطط لإسقاط حكومة المشيشي.
موقف الرئاسة الطارئ والمفاجئ من المشيشي والرافض لتوليه الوزارة، وغياب السند الحزبي والبرلماني، اضافة الى فريق حكومي غير منسجم ولا يخضع لسلطة الرئيس المكلف، دون أن ننسى افتقادها لبرنامج وخارطة طريق للخروج من أتون أزمة شاملة ومعقدة وغير مسبوقة.
كلها عناصر قطعا ستضعف من وزن حكومتنا العتيدة برئاسة وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة، الذي سيجد نفسه على غرار سابقه، في وضع بين المطرقة والسندان، بين جنوح القصر اللامحدود للهيمنة على كل السلطة التنفيذية من جهة، واستماتة الأحزاب والكتل البرلمانية في الدفاع عن النظام السياسي والمؤسساتي أمام “مخاطر تغول الرئاسة” من جهة ثانية، وهو صراع يتوقع أن يتغذى أكثر خاصة في ظل مرور حكومة المشيشي، وبالتالي رفض الأحزاب والكتل البرلمانية لطلب القصر في اسقاط الحكومة وهو السيناريو الأقرب للتحقق.
مما تقدم يبدو أن الصراع بين قيس سعيد والأحزاب سيستمر، وأن امكانية الالتقاء بين الطرفين لا تبدو واردة وممكنة، في ظل تباعد وجهات النظر والنوايا، وأساسا أزمة الثقة الكبيرة بين الطرفين، ما يجعل الأحزاب أقرب الى عدم الاستجابة لتلميحات القصر بمعاقبة المشيشي، وهو ما سيمكنها من استعادة – ولو جزئية – للمبادرة السياسية التي ضاعت منها بعد تحوز القصر على تعيين رئيس الحكومة.
وهو سيناريو لم تكن الأحزاب تنتظره بمثل هذه السهولة، ولا نتوقع أنها ستفرط فيه ايا كانت “الاغراءات” و “الصفقات” التي يمكن أن تعقدها مع القصر، وهي التي تتوجس من غموض الرئيس قيس سعيد، وكذلك بسبب التباين الكبير في التصورات والخيارات، فضلا على أن ما حصل سيضعف القصر ويجعل كل “الضغط” ينتقل من ملعب الأحزاب والبرلمان الى قصر قرطاج وتحديدا الرئيس قيس سعيد الذي تحول الى طرف في لعبة الصراعات والمناورات السياسيوية التي عانت وما تزال منها البلاد.
في هذا المناخ السياسي المتوتر، والمتسم بالصراع المفتوح بين قصر قرطاج والأحزاب والبرلمان، سيكون ميلاد حكومة الرئيس المكلف هشام المشيشي، وفي ظرف تمر به البلاد بأزمة معقدة وشاملة، يتداخل فيها الاقتصادي بالاجتماعي والأمني وكذلك الصحي في ظل عودة انتشار وباء الكورونا ( الكوفيد-19).
كل المؤشرات تشير، الى أن الاستقرار السياسي والهدنة الاجتماعية، سيكونان حلم صعب المنال، في المرحلة المقبلة التي ستقودها حكومة المشميشي، التي من المرجح أن تنال يوم الثلاثاء الفاتح من سبتمبر ثقة مجلس نواب الشعب.
Comments