الجديد

المشيشي في باريس ..  عودة على تفاصيل زيارة مثيرة !

منذر بالضيافي

كثر الكلام، حول الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الحكومة، هشام المشيشي لباريس، في اطار جولة أوروبية، هي أول خروج للرجل منذ وصوله للقصبة، كانت ستشمل ايطاليا أيضا، قبل أن تقف على أسوار “برج ايفيل” فقط، عدل عن زيارة روما، “بتعلة” مرض أحد الوزراء من مرافقي هشام المشيشي “بكوفيد –19″، وفق تصريحات تونسية وايطالية متطابقة.

زيارة باريس، التي وصفها كاتب الدولة للخارجية بأنها قصد “التعارف”، وهو أول تصريح رسمي فهم منه أنه يندرج في اطار التقليل من شأن وأهمية التنقل الباريسي، خصوصا وأن وزير الخارجية كان غائبا عنها.

وهو المفروض يكون الى جانب “رئيسه”، في أو زيارة خارجية له ولبلد مثل فرنسا تربطه ببلادنا علاقات خاصة بحكم التاريخ والثقافة والمصالح المشتركة، باعتباره الشريك الاقتصادي الأول لبلادنا، في مرحلة لابد أن تكون اقتصادية بامتياز، بالنظر للأزمة التي يمر بها الاقتصاد التونسي، والتي تعد أوروبا – من خلال محطة باريس – بوابة للتخفيف من وطأتها، في زمن الركود الذي عمقه وباء الكورونا.

تصريح كاتب الدولة وغياب وزير الخارجية، فضلا عن اللقاءات و الكواليس التي دارت في قصر قرطاج، و التي سبقت الزيارة، أعتبرت من قبل البعض أن هدفها كان “التشويش”، على التحرك الخارجي الأول لرئيس الحكومة.

في هذا السياق، نقل موقع “الرأي الجديد” (الذي رافق مديره رئيس الحكومة في زيارته الباريسية)، عن مصادر قال أنها “جديرة بالثقة”، ومفادها “أن رئاسة الجمهورية قامت بالتواصل مع سفيري فرنسا وإيطاليا بتونس، للتعبير لها عن عدم رضاها على زيارة المشيشي إليهما. ونقلت ذات المصادر، عن السفيرين، امتعاضهما لهذا التدخل من رئاسة الجمهورية، وبهذا الشكل، الذي لم يرق لبلديهما”. وهو ما لم يتم تكذيبه من قبل الرئاسة التونسية.

في ذات السياق أيضا، اكد القيادي في حركة النهضة  ووزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام مساء اليوم السبت 19 ديسمبر 2020 ان حديث رئيس حركة مشروع تونس محسن مرزوق الذي وصفه بالكاذب الكذوب عن لقاء جمع ليلا رئيس الجمهورية قيس بسفير فرنسا وتعبيره له عن عدم رضاه عن زيارة المشيشي لبلاده صحيح .

وكتب عبد السلام في تدوينة نشرها بصفحته على موقع “فايسبوك” : “محسن مرزوق كاذب كذوب، ولكنه صدق هذه المرة… القصر اشتغل على إفشال زيارة المشيشي، والمحيطون به ربطوا خيوطهم مع قرطاج لتحقيق نفس الهدف، ووزير الخارجية أغلق هاتفه واختفى عن الأنظار ولم يعد لعمله الا بعد انتهاء الزيارة”.

بالعودة للزيارة، و قبل الحكم عليها بالفشل أو النجاح،  لابد من وضعها في سياقها، ففي المستوى الداخلي، تزامنت مع تصاعد الازمة السياسية، الذي برز من خلال “القطيعة” بين قصر قرطاج من جهة، وبين حكومة المشيشي والحزام البرلماني والسياسي الداعم لها ( حركة النهضة، قبل تونس وائتلاف الكرامة)، وتماطل رئاسة الجمهورية في التعاطي الايجابي مع دعوات الحوار والذي برز بالخصوص من خلال “البرود” حد الرفض لمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل.

أما في المستوى الخارجي، فان زيارة المشيشي تتنزل في سياق حالة من الهوان والضعف الدبلوماسي الغير مسبوق، وهو ما جعل بلادنا في حالة عزلة ضمن وجود حصاد هزيل لدبلوماسية الرئيس قيس سعيد.

كما أن العلاقة مع فرنسا ليست في افضل حالاتها، برغم الزيارة الأخيرة لساكن قرطاج، والتي حاول فيها ترضية باريس وهو الذي اعتبر الاستعمار الفرنسي مجرد حماية لا غير،  تصريح مثل “صدمة” لعموم التونسيين وحتى من أصدقاء بلادنا من الفرنسيين.

ولعل سبب هذا “البرود” في الموقف الفرنسي تجاه  تونس، هو في علاقة بضبابية الموقف التونسي بما يجري في المنطقة وفي شرق المتوسط تحديدا، الذي هو محل صراع كبير بين باريس وتركيا، بدأ ماكرون منذ فترة في الحشد له عربيا وأوروبيا بغاية وضع أردوغان في الزاوية، اردوغان الذي يحظى بدعم ومساندة كبيرين من قبل الحزب الحاكم في تونس (حركة النهضة الاسلامية).

الحزب الاسلامي، الذي كان محل اشادة من قبل هشام المشيشي في لقاء مع جريدة “لوفيغارو” الفرنسية، اذ قال “بأن حركة النهضة حزب مدني يلتزم بشكل واضح وغير مشروط بدولة القانون وقيم الجمهورية وساهمت في انقاذ المسار الديمقراطي بإتباع منهج التوافق”، وهو موقف نقدر أنه لا يروق لفرنسا الرسمية، وهي التي تشن حملة على “الاسلاميوية السياسية”.

الجدل “السياسوي” الذي صاحب الزيارة الباريسية لرئيس الحكومة ، مثل “الشجرة التي تحجب الغابة” عن اللقاءات المهمة لرئيس الحكومة في عاصمة فرنسا، حيث التقى خلالها الوزير الأول الفرنسي، ورئيس البرلمان، ورئيس مجلس الشيوخ، فضلا عن ممثلي الجالية التونسية بفرنسا، والقناصل التونسيين هناك، إلى جانب عدد من المستثمرين والكفاءات العلمية وغيرهم.

وهي ذات اللقاءات التي ظفر بها رؤساء الحكومات السابقين، في زياراتهم الباريسية، والتي تمت كلها في سياق أفضل و مختلف كثيرا ، عن الذي تمت فيه زيارة المشيشي، سواء في علاقة بالوضع الداخلي وتناقضاته وصراعاته، التي رمت بظلالها على الزيارة، أو بالسياق الاقليمي والدولي وكذلك الفرنسي.

هذا البلد الذي تربطه ببلادنا “علاقات استثنائية”، هو بدوره يعيش أزمة صحية مربكة، فضلا عن تراجع الدور الفرنسي في المنطقة، لصالح بداية تمدد نفوذ أمريكي وتنافس مع الصين.

دون أن ننسى ضعف وتراجع الحماسة للتجربة التونسية وللربيع العربي، وهذا ما أكدت عليه جل الصحف الفرنسية الرئيسية، بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق شرارة الثورة التونسية ( 17 ديسمبر201- 17 ديسمبر 2020)، والتي أشارت جلها الى أن الفشل هو الأقرب، في ظل تراكم وتعقد المشاكل، بعد 10 سنوات من الثورة، وهو ما أكدت عليه “لوموند” في افتتاحيتها ليوم السبت 19 ديسمبر الجاري، تحت عنوان:”Tunisie : les risques d’un échec, dix ans après la révolution Par Le Monde  “.

وكانت صحيفة “لوفيغارو” قد خصصت أيضا افتتاحية لتونس ما بعد الثورة، و التي حملت عنوان “الأوهام الضائعة”. تقول “لوفيغارو” إن النار التي اشعلها محمد البوعزيزي والتي ما زالت تستعر هي “نار توق الشعوب لمزيد من الديمقراطية ولشروط معيشية لائقة”. و”إنها مطالب سياسية، اقتصادية واجتماعية لم تتحقق في أي من بلدان الربيع العربي”.

و تابع كاتب افتتاحية “لوفيغارو”، “فيليب جيلي” الذي لفت أيضا الى “ان الانتخابات في هذه البلدان لم تتمخض عن أنظمة ديمقراطية يديرها أصحاب الكفاءات، لا بل ان الانتفاضات أدت إما الى الحروب الاهلية او التطرف الإسلامي او العسكرة، وأحيانا الى الثلاثة معا”.

وقد خلصت “لوفيغارو” في افتتاحيتها الى ان “العقد الفائت لقّن الغرب درسا قاسيا في الواقعية، بعد ان ظن ان بإمكانه تصدير نموذجه الديمقراطي في سياق مقولة نهاية التاريخ، قبل ان يدرك انه هو بذاته في ازمة”. كاتب المقال “فيليب جيلي” اعتبر ان “الغرب لن يكرر الخطأ ذاته وان الشعوب العربية سوف تدرك، لدى اندلاع موجة الاحتجاجات المقبلة، انها محكومة بالاتكال على نفسها في السراء والضراء” .

كشفت الزيارة الباريسية لرئيس الحكومة هشام المشيشي، عن عمق الأزمة التي تعيشها تونس وأخرجت الخلافات الداخلية للعلن، في الخارج الذي يعلم سفراؤه كل كبيرة وصغيرة، عما يجري في بلاد قرطاج.

وهو ( أي الخارج، العربي والغربي)  الذي تحول الى طرف رئيسي في تشكيل المشهد التونسي،  من خلال ربطه لعلاقات وثيقة مع “الفاعلين في المشهد”،  فضلا عن استفادته من الانهيار الاقتصادي، الذي يفرض اللجوء للدول الخارجية وللمؤسسات المالية الدولية، التي تنتظر الضوء الأخضر من عواصم الغرب وواشنطن لمنح تونس دعم مالي،  في شكل قروض لتمويل ميزانيتها،  التي دخلت في طور عجز هيكلي، دون افق واضح للخروج منه،  غير مزيد التداين ورهن الأجيال القادمة، وقبل ذلك رهن السيادة الوطنية.

من هنا، نقول أنه لا يمكن الحديث عن سياسة خارجية قوية، في ظل انقسام وتناحر داخلي، وفي ظل حكام تنقصهم الكفاءة والتجربة، والالمام بالتحولات الاقليمية والدولية الجارية، وموقع بلادنا فيها.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP