المنصف عاشور يكتب: "الربيع العربي لم يوجد والخريف الاسلامي في نزول"
المنصف عاشور *
انطلقت اشغال الندوة السنوية الثانية لحركة النهضة، بتزامن مع ما لم يقل من أخبار راجت قبل أيّام بشأن حديث عن وقوع اتفاق سري بين رئيس مجلس شورى النهضة عبد الكريم الهاروني والمدير التنفيذي لحركة نداء تونس حافظ قايد السبسي، يقضي بتجديد التوافق بينهما وعودة الوئام في العلاقة مع رئاسة الجمهورية، وانطلق الكلام عن محاولات نور الدين البحيري في البحث عن ترتيب لقاء بين الشيخين، وبالتالي القطع مع يوسف الشاهد وحكومته ومشروعه.
وجاء التكذيب على لسان رئيس الحركة هذه المرة، الذي حسم الامر بصفة نهائية واختار شريكه الجديد، لمواصلة ما يعتبره خيارا استراتيجيا، بل ومصيريا للإبقاء عن سياسة التوافق، التي لا بديل عنها على قاعدة لا نغير فريقا ناجحا، وباعتبار التوافق هو المنتوج، الذي يرتاح له شركاء تونس حسب زعمه.
من خلال قراءة الخطاب المكتوب الذي ألقاه الغنوشي، في افتتاح الندوة السنوية والذي حاول من خلاله تقمص صورة رجل الدولة والشخصية الوطنية الاولى الماسك بخيوط اللعبة السياسية، واحتلال مرتبة المركز في المشهد الحزبي، الذي تدور حوله بقية الأطراف الواقعة على الهامش من باقي الفاعلين السياسيين، وكأنه يقول هناك النهضة أولا ثم تأتي البقية أو بالأحرى البقايا لاحقا.
اختلفت التقييمات حول الخطاب وتوقيته وشكله وتأثيره، على مجريات الأحداث بين اعتباره خطاب الوداع بالنسبة للبعض، أو خطاب المرشح للانتخابات القادمة للبعض الاخر. الخطاب الذي دام حوالي الساعة، حاول الإجابة على كل القضايا التي تشغل بال جمهور النهضة وعموم التونسيين. ودون العودة الى التفاصيل أو الخوض في الجزئيات، وبعيدا عن منطق الاستئصال، أو الجدل العقيم سنحاول الخوض في بعض الإشكاليات، التي نعتبرها جوهرية وجديرة بالتفاعل.
أعتقد أن التحول البارز، فيما أسماه الغنوشي المساهمات الفكرية للنهضة، في تعميق الفكر السياسي التونسي (هكذا)، يتمثل في اعتبار النهضة أو “الإسلام الديمقراطي”، وفق تعبيره، حامل لمشروع سياسي كامل وشامل، وتحتل فيه مركز الصدارة والنواة الصلبة فيما يمكن لبقية مكونات المشهد الحزبي الالتحاق بمشروعها لكي تقتات من فتاتها …وهنا يكمن اعتراضنا على هذا المسعى، وهذا النهج الذي نعتبره فاقدا للمشروعية، ولا يستند الى أي مبرر اخلاقي، او سياسي. ما يجعل من الخطاب القائم على اعتبار النهضة هي القوة الغالبة في البلاد وهي القوة الرئيسيّة والأولى والحائزة على الأغلبية مغالطة كبرى.
الجميع يدرك أن قوة النهضة نسبية وظرفية، وهي بالكاد لا يتعدى حجمها الفعلي والحقيقي خمس التونسيين، وحتى وزنها تحت قبة البرلمان على أهميته ليس بالأغلبي، وكذلك الأمر بالنسبة لتمثيليتها في المنظمات الاجتماعية. وتبقى على الرغم من مظاهر الوحدة والتماسك والانضباط، وهو ما لا ننكره بل و ربما نقدره، هشة وعرضة كسائر الطيف السياسي للانقسامات والأزمات في ظل التطورات السريعة في العلاقات الدولية، ونهاية أسطورة الربيع العربي، و المراهنة على التيارات السياسية الدينية، كبديل عن أنظمة الاستبداد في العالم العربي الاسلامي.
والمتتبع للخطاب السائد اليوم، في أغلب البلدان الغربية، سواء أمريكا أو أوروبا على الصعيد الحكومي (الاتحاد الاوروبي قوة ضغط اقتصادية ولن يكون قوة سياسية) يلاحظ أن العواصم هي المحددة والعلاقات بين الدول هي الأساس. والتوجه الاستراتيجي هو التخلص من هذا العبء الثقيل الثلاثي المتمثل في الاٍرهاب ووقوده التطرّف الديني العنيف ومنابعه التيارات الظلامية، وكذلك الهجرة السرية .ونحن هنا لا نتحدث عن تلك الحملات العنصرية التي تستهدف الاسلام كدين وتخلط بينه وبين الاٍرهاب.
التحولات في الولايات المتحدة الامريكية، منذ صعود الرئيس ترامب، والتي قد تتأكد بفوز الجمهوريين في انتخابات نوفمبر القادم (التجديد النصفي في الكونغرس)، قد تعزز التيار المعادي للتطرف وللتيارات السياسية الدينية عموما. كما أنه من غير المستبعد أن تنجح قوى الوسط وربما قوى اليمين وحتى اليمين المتطرف في تسجيل انتصارات في الانتخابات الأوروبية، في شهر ماي من السنة المقبلة، وهو ما يعني فقدان الاسلام السياسي والتيارات السياسية الدينية سندا هاما.
المعطيات الدولية والإقليمية والوطنية كان من المفروض أن تفرض على الغنوشي شيئا من التواضع وأن يكتفي بوضع النهضة في أفق استراتيجية البقاء والدفاع عن موقعها الحالي ،وهو ليس بالقليل، وليس المغامرة بخطاب التغول والنزعة إلى الهيمنة والهروب الى الامام، من خلال التساوي في نظرته بين شخصه والنهضة، والثورة والديمقراطية وتونس، وهذا في اعتقادنا مربط الفرس ونفس الانحراف الذي قد يكون شرع لبن علي اتخاذ قرار الدخول في معركة مع الحركة بدعوى حماية المجتمع والدولة من مشروعها، و قد يدفع بالنخب الى مراجعة علاقتها بحركة النهضة، والانتباه الى عودة خطاب الهيمنة لديها، خاصة مع تزامن هذه النزعة للتسلط، مع عودة المسائل المتعلقة بالجدل الدائر حول التنظيم السري للحركة، و تغلغلها في الأجهزة الأمنية والعسكرية وفِي علاقة بالأطراف الأجنبية.
هذا على مستوى القيادة، أما على صعيد القواعد فحدث عن البحر، فلا تسامح ولا إقرار بحق الاختلاف ولا اعتراف بالهوية الوطنية التونسية، ولا بالقيم الانسانية الكونية، ولعل استعراض ومتابعة ملاحظاتهم، على صفحات التواصل الاجتماعي، إبان إلقاء رئيس الحركة خطابه تغني عن كل تعليق، وأخطرها تواصل الخطاب التكفيري والعدوني والاستئصالي.
التموقع في مرتبة القوة المتغولة والزاحفة أو الساعية إلى فرض مشروعها المجتمعي الأقصى، وهي التي لا تمثل الأغلبية، من حيث تمثيليتها في المجتمع وفِي المؤسسات، في ظل تواصل تشرذم القوى السياسية التي تمثل الأغلبية، وهي الحاملة المشروع المجتمع العصري، كما أرسته دولة الاستقلال واصطفوا حوله معشر التونسيين، لا يمكن في نظري أن يمثل الاختيار الأسلم لا للبلاد ولا حتى لحركة النهضة.
وبعبارة اخرى، على النهضة أن تجد موطن قدم في المشروع التونسي العصري الديمقراطي الحداثي ولا أن تستبدله بمشروع جديد حتى ولو سعت الى التحصن تحت شعار “الاسلام الديمقراطي” درئا لكل شبهة قد تلحقها نتيجة ما يربطها بالإسلام السياسي وبالإخوان المسلمين وليس أن تدعو غالبية الطيف السياسي ومن ورائهم غالبية الشعب التونسي الى الانحياز الى ما تعتبره مشروعها.
الخلاف إذن عميق وهو منهجي وجوهري وسياسي. فالمشروع الديمقراطي العصري قد يكون قادرًا وقابلا على ضمان موقع للنهضة بعيدا عن كل إقصاء باحتواء الحساسية الاسلامية ضمن مشروع مجتمعي شامل وتوحيدي وتشاركي، ولكن العكس غير صحيح والعالم العربي والإسلامي لم يشهد تجربة واحدة لديمقراطية بقيادة الجماعات السياسية الدينية، وإنما يمكن القول بأن بعض التجارب الديمقراطية الناشئة، التي غامرت بإقحام الإسلاميين في المنتظم السياسي وفِي المسارات الانتخابية، نجحت الى حد ما نتيجة تصدر قيادة هذه التجارب من قبل القوى الوسطية والعصرية.
ومن الطبيعي أن نشير إلى مسؤولية النخب والقوى الوسطية بالوعي بخطورة الرهان محليا ودوليا، وإعطاء الأولوية لاسترداد الدور الريادي والطلائعي في مسار الانتقال الديمقراطي، وهو الضامن لديمومته ونجاحه من خلال إعادة التوازن بينها وبين حركة النهضة. ونعيدها للمرة المليون، لا معنى ولا جدوى ترجى من أي “مشروع” سياسي أو من شراكة في الحكم أو من توافق أو من اتفاق أو من تحالف أو من تعايش أو أي تجاوز” للصراع الايديولوجي” في ظل انخرام التوازن، لأن ذلك أدى الى ما نحن فيه الأن. ومن الغريب ومن الغباء أن يحاول بعض العابثين أن يعيدوا إنتاج نفس الغباوة تحت مسميات جديدة وفِي الوقت الضائع ودون العبرة من اخطاء الماضي القريب.
** هذا المقال، كتب قبل العملية الارهابية، التي حصلت اليوم الاثنين 29 اكتوبر 2018 ، بشارع الحبيب بورقيبة..
Comments