المنظومة الحزبية..التفكيك وإعادة التركيب
بقلم: د.خالد شوكات*
لقد جئنا الى عالم “الديمقراطية” من عالم “الشمولية”، ولهذا سنبدو طيلة هذه المرحلة الانتقالية غرباء وعاجزين سواء على مستوى “الوسائل” أو في مستوى “المفاهيم” و”المضامين”، وسنظهر الكثير من التردد والفشل وعدم القدرة على ادراك الغايات واقناع المواطنين، لأننا نفلح ارض الديمقراطية بوسائل انتاج استبدادية، فمحاريثنا قديمة، ومناجلنا لا تتفق مع نوع السنابل والثمار، وسمادنا لا يستجيب لمتغيرات التربة والمناخ، وبذورنا لا تلبي الحاجة ولا توفّر حجم الانتاج المطلوب، ولهذا فسنكون مضطرين لمراجعة كل شيء تقريبا، وسنكون مطالبين بتفكيك هذه المنظومة الحزبية ذات المرجعية الفاشية والستالينية، منظومة ما قبل انهيار جدار برلين، واعادة تركيبها على نحو يتفق مع النظام الديمقراطي الذي يحتاج تنظيمات سياسية جديدة ذات طبيعة “برامجية” لا تنظيمات سياسية غارقة في الهواجس العقائدية والأيديولوجية”.
ولن تبقى عائلة سياسية واحدة من بين العائلات السياسية الرئيسية في بلادنا، الوطنية الاصلاحية والإسلامية الاخوانية والقومية العربية واليسارية الماركسية والليبرالية الفرنكوفونية، بمنأى عن تأثيرات رياح التغيير وعواصف الانهيارات التي تصاحب عمليات الانتقال الديمقراطي، ولهذا فمن يستغرب استقالة عبد الحميد الجلاصي او استقالة من سبقوه من القيادات النهضوية البارزة، مدعوّ الى التراجع عن هذا الاستغراب سريعاً، فحركة النهضة الاسلامية تواجه ذات التحديات التي تواجهها الأحزاب الكبرى الممثلة للعائلات السياسية الاساسية، واهم هذه التحديات انها ما تزال تتحرك في الواقع الجديد بوسائل قديمة، وان قيادتها تنتمي الى مدرسة “القيادة مدى الحياة” فيما يفرض الواقع ضرورة استبدالها بقيادة “تداولية” من جيل جديد هو بصدد الصراع من اجل فرض وسائله ومفاهيمه ومضامينه، وسيفرضها حتما بمنطق التاريخ، فيما ستتشبث “قيادة مدى الحياة” بالأمر حتى لحظة انهيارها، وهو ما تضمنته إشارة “مؤتمر 1974” الواردة في نص الاستقالة، ويسري كذلك على الحالات الباقية ايضا، كما ثبت في حالة “الحبهة” و”النداء” و”آفاق” وغيرها…
لكن عملية التفكيك واعادة التركيب، وانتقال الشأن الحزبي من “الايديولوجي” الى “البرامجي”، لن تكون شأناً سهلا ميسّرا تجري عليه ببساطة قواعد التاريخ والاجتماع السياسي المستخلصة من تجارب الانتقال الديمقراطي المقارنة، بل ان الامر لا يخلو من الطوارئ العائدة الى خصوصية الحالة التونسية وتأثيرات محيطها الاقليمي العربي الاسلامي الممانع في محور قوي منه لنجاح التجربة التونسية، وقد ظهرت عوارض غريبة توحي باصابة ديمقراطيتنا الناشئة بامراض الشيخوخة، واخطرها مرض “الشعبوية” التي ظهرت تجلياتها لدى جميع العائلات السياسية تقريبا، فكل عائلة أفرزت تقريبا نسختها المتطرفة، وبدا المشهد السياسي وكأنه قد تحوّل الى ساحة “صراع وجودي” بين كائنات سياسية لا تطيق العمل المشترك وتتبادل “التكفير” بأنواعه فيما بينها(تكفير وطني/ تكفير ديني/ تكفير طبقي.. الخ)، اذ للشعبوية وجهان كما نعلم، وجه فوضوي اذا زاد عن حده قاد الى الخراب، ووجه تحفيزي قد يساهم في تشجيع بقية القوى السياسية المؤمنة بالديمقراطية، على تسريع مساراتها النقدية واستكمال مشاريع التفكيك واعادة البناء الضرورية لاستمرارها.
ما نستشرفه ان السنوات الخمس القادمة ستشكل مجالا خصباً لصراع المصالح المحموم من جهة، ولكثير من الانهيارات والولادات الجديدة وفقا لشروط واستحقاقات المرحلة الجديدة من جهة ثانية، وفيّ كل الاحوال فان طبيعة النظام الديمقراطي تقتضي قيام احزاب ديمقراطية حقيقية، لا احزاب شكلية تراعي مظاهر الديمقراطية ولا تتبنى وسائلها ومضامينها ومفاهيمها، والا وقعنا في شراك “شكيزوفرينيا” سياسية قد تطيح في نهاية الامر بالنظام الديمقراطي لا قدر الله.
Comments